رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغة الأدب فى اليوم العالمى للعربية


يتكلم اللغة العربية ويتعلمها نحو نصف مليار نسمة، لذلك أقرت الأمم المتحدة ١٨ ديسمبر من كل عام يومًا للاحتفال بها.. فى هذا اليوم تصحو فى ذهنى علاقة الأدب باللغة، وأتذكر ما قاله يحيى حقى فى ذلك الصدد من أنه لا بد أن يكون «السلام متبادلًا بين الأسماء والأفعال والحروف»، ويعبّر الكاتب البرازيلى «ماشادو دى أسيس» عن الفكرة نفسها بقوله: «إن الكلمات تعشق وتتزوج ورباط الزواج بينها هو ما نسميه الأسلوب»، وللأسف فإن عددًا غير قليل من الأدباء الشبان لا يولون اللغة اهتمامهم، معتقدين أنها فى نهاية المطاف ليست سوى «أداة توصيل».
لكن اللغة فى الأدب تتجاوز دورها كأداة توصيل لتصبح جزءًا رئيسيًا من جمالية العمل الأدبى، بما تحمله من إيقاع بفضل عشق الكلمات لبعضها البعض وانسجامها، ويندمج هذا الإيقاع اللغوى مع الإيقاع العام للعمل الأدبى، ومع إيقاع الحياة الكونى الذى نلمسه فى دقات قلوبنا، وفى تعاقب الليل والنهار، وفى الحياة والموت، والشروق والغروب، البعض يتخيل أن اللغة هى منظومة القواعد والرفع والضم والفاعل والمفعول، لكن ذلك أيسر ما فى الأمر، لأن مفهوم اللغة فى الأدب يشمل أولًا وأخيرًا القدرة على التعبير أو العجز عنه.
لذلك تحدث يحيى حقى ذات مرة عن «الفقر اللغوى لدى الأديب»، أى ضعف المحصول اللغوى والمفردات والقدرة على الاشتقاق وغياب الإحساس بالفروق الدقيقة بين الكلمات، وفى ظل ذلك الفقر يصبح الأديب عاجزًا عن رسم صورة دقيقة للحالة التى يعالجها، الأمر إذن متعلق بالقدرة الأدبية مباشرة.. وأنت- على سبيل المثال- إن أردت أن تصف انزلاق حمالة صدر عند فتاة فى موضع معين، فإنك لن تجد الكلمة ما لم تكن مهمومًا باللغة، لكن انظر إلى الروائى السورى الكبير عبدالسلام العجيلى يصف ذلك فى قصة له قائلًا: «ارتخت حمالة صدرها عند منزلق الكتف»! ها هو الكاتب المتمكن لغويًا يجد عبارة «منزلق الكتف» التى تخلق صورة دقيقة متفردة، خاصة بلحظة محددة بعيدًا عن الصور الشائعة العمومية سابقة الإعداد.
وقد يكتفى الكثيرون برسم صورة شائعة، فيكتبون: «تدفق النور إلى الحجرة»، لكن جيمس جويس فى قصته «الموتى» يجعل الصورة محددة، لا تتكرر، تكسب اللحظة تفردها حين يقول: «انساب ضوء من مصباح الطريق فى شكل سهم طويل من إحدى النوافذ إلى الباب»، ويحتاج الأديب لكى يمتلك ناصية اللغة إلى جهد يومى مستمر دفع نجيب محفوظ للقول: «إن أكبر صراع خضته فى حياتى كان مع اللغة العربية»، وإذا لم تكن لغتك غنية بالمرادفات فإنك سوف تكرر الكلمة ذاتها عشر مرات.
وفى هذا الصدد تقول الروائية البديعة إيزابيل اللندى: «إننى أقرأ الفقرة بصوت عالٍ، وإذا وجدت كلمات مكررة فإننى أشعر بالاستياء.. وإذا وجدت كلمة لا تطابق المعنى الذى أرمى إليه أستعين بالمعاجم.. من المهم جدًا بالنسبة لى أن أجد الكلمة المحددة التى تخلق الشعور أو تصف الحالة، لأن الكلمات هى المادة الوحيدة التى نمتلكها».
هذه العناية باللغة تعود إلى أن الأدب فى جانب كبير منه صياغة، بل يكاد الأدب أن يكون صياغة، صياغة بناء فنى يتضمن مستويات متعددة تتفاعل فيما بينها، ومنها الصياغة اللغوية، وليس أفضل للقاص أو الروائى من قراءة الشعر منبعًا للاغتراف من اللغة وأجراسها، ولا أقصد بقراءة الشعر ذلك الذى تصبح كل كلمة فيه معضلة بحاجة لتفسير، بل الشعراء الأقرب مثل إبراهيم ناجى ومحمود حسن إسماعيل وحافظ إبراهيم وإيليا أبوماضى وبدر شاكر السياب وأبوالقاسم الشابى، حيث تحافظ القصيدة على أوزان الشعر، ويشير جلال الدين السيوطى إلى الاهتمام بموسيقى اللغة حتى فى القرآن الكريم، ويقول فى كتابه «الإتقان فى علوم القرآن»: «إنه كثر فى القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون، وحكمته وجود التمكن من التطريب»، ويقصد السيوطى التمكين لموسيقى اللغة.
وأخيرًا، فليس كل الشعر العربى القديم عسيرًا على الفهم، اقرأ مثلًا الأبيات العذبة التالية: أيوحشنى الزمان وأنت أنسى.. ويظلم لى النهار وأنت شمسى؟
وأغرس فى محبتك الأمانى.. فأجنى الموت من ثمرات غرسى
واعلم أن كاتبها هو الشاعر ابن زيدون الذى توفى عام ١٠٧٠م، أى أنها مكتوبة منذ أكثر من ألف عام، ولا أظن أن هناك كلمة واحدة فيها غير مفهومة.
ختامًا، أقول ما قاله يحيى حقى: «لا يوجد أدب من دون عشق للغة».