رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أى الرجلين أنت يا أقطاى؟




أعرب المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، عن رغبة أنقرة فى إعادة علاقات بلاده مع القاهرة، واصفًا مصر بأنها «من الدول المهمة بالمنطقة والعالم العربى، وفى حال تشكلت أرضية للتحرك معًا فى مواضيع ليبيا وفلسطين وشرق المتوسط وغيرها من القضايا، فإن تركيا لا يمكنها، إلا أن تنظر بإيجابية إلى ذلك».. ولم تكن هذه هى محاولة نظام أردوغان الأولى، فقد سعى وزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو لمغازلة القاهرة بالقول: «مصر لم تنتهك فى أى وقت الجرف القارى لنا، فى اتفاقيتها التى أبرمتها مع اليونان وقبرص، بخصوص مناطق الصلاحية البحرية»، ثم حاول استمالة القاهرة إلى الدخول فى مفاوضات مع أنقرة، حين قال «الطريقة الأكثر عقلانية لعودة العلاقات التركية المصرية، تكون عبر الحوار والتعاون مع تركيا بدلًا من تجاهلها».
وزاد ياسين أقطاى، مستشار الرئيس أردوغان، على ذلك بتأكيده ضرورة أن يكون هناك تواصل بين مصر وتركيا، بغض النظر عن أى خلافات سياسية قائمة، مضيفًا أن «الجيش المصرى جيش عظيم، ونحن نحترمه كثيرًا، لأنه جيش أشقائنا.. ولا نتمنى ولا ننتظر من الجيش المصرى أن يعادى تركيا».. وبلغة المُستكين قال: «تواجدنا فى البحر المتوسط ليس لمعارضة ولا مهاجمة أحد، بل للدفاع عن أنفسنا وأرضنا وحقوقنا.. بالطبع لا نقول إن البحر المتوسط ملك لنا، بل نقول إن للجميع حقوقًا فيه، سواء مصر أو سوريا أو فلسطين أو لبنان أو اليونان أو تركيا، وقد تلاحظ أن سواحل تركيا فى البحر المتوسط هى الأكبر، ولكن لا يُترك لها إلا أقل القليل»!
كل ذلك لم يَخل علينا، لأن الحقيقة المؤكدة، فى هذا الصدد، أن المسئولين الأتراك يتلاعبون بالأدوار، يحاولون إيهام الآخرين بسياسات، بينما أفعالهم تقول شيئًا آخر، وبالتالى تصريحات المغازلة لا تعنى شيئًا، إلا عندما تعود تركيا إلى رشدها وحجمها الطبيعى.. أو كما عبر وزير الخارجية سامح شكرى، بأن «القاهرة ترصد الأفعال والحديث والتصريحات، ولكن إذا كان هذا الحديث غير متوافق مع السياسات، فلا تصبح له أهمية».. فالسياسات التى تراها مصر، من تواجد عسكرى تركى على الأراضى السورية أو العراقية أو الليبية، والتوتر القائم فى شرق المتوسط، تنبئ كلها بسياسات توسعية مزعزعة للاستقرار بالمنطقة، وبالتالى لا تقود إلى حوار أو بدء صفحة جديدة.. فما أسباب الغزل التركى لمصر؟
الموقف التركى قد يكون ناتجًا عن حاجة نظام أردوغان إلى منفذ يخرجه من الأزمات التى يتخبط فيها على الصعيد الأوروبى وفى ليبيا وشرق المتوسط.. ربما وجد أردوغان أيضًا أنه بحاجة ماسة لإعادة فتح قنوات التواصل والحوار مع مصر، بوصفها قوة عربية كبرى مؤثرة ولاعبًا إقليميًا بارزًا بالمنطقة، لأن الضغوط المتتالية على أنقرة، وضعتها فى أزمة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والدول العربية، وكذلك مع روسيا بشأن الوضع فى سوريا، وأخيرًا تعديل المغرب لاتفاقية التبادل الحر، التى أوقفت استخدام أنقرة لاستغلال السوق المغربية، وإغراقها بالمنتجات والسلع، وهو ما ألحق ضررًا كبيرًا بالإنتاج المحلى فى أنقرة.
عندما نحاول فهم تطور مسار العلاقات بين دولتين، ينبغى التمييز بين الموقف الاستراتيجى لهذه الدولة، وبين الموقف التكتيكى الآنى، وهو ما ينطبق على التصريحات الصادرة عن القيادات التركية حيال مصر.. فالموقف العام الرئيسى الذى طبع كل المواقف التركية منذ سبع سنوات، هو الطعن فيما ترتب على ثورة ٣٠ يونيو، وهو ما تعتبره القاهرة خطًا أحمر وتدخلًا سافرًا من أنقرة فى شئونها الداخلية.. إلى جانب نقطتى خلاف أساسيتين، أولاهما مسألة ترسيم الحدود البحرية والنفط والغاز فى المتوسط، والصراع فى ليبيا، الذى تقف فيه الدولتان على طرفى خلاف.. أما النقطة المحورية، فإنها تتمثل فى اقتناع أردوغان فعلًا بأن تمسكه بورقة الإخوان والمجاهرة بها باتت تشكل عبئًا عليه، لذلك بدأ يعتمد سياسة براجماتية حيال كل الوضع الذى يتخبط فى المنطقة.
لذلك، فإن المحاولات التركية الزائفة للتودد إلى مصر تعكس حالة من الارتباك والتأزم تعيشها أنقرة مع عواصم عدة، وعدم قدرتها على التوصل إلى حلول لأى مشكلة دخلت فيها بإرادتها، سواء بالتدخل العسكرى المباشر أو غير المباشر عن طريق دعم جماعات معارضة وتقديم المساعدات المادية والعسكرية والغطاء السياسى لها.. وهى تبقى- أى المحاولات- تكتيكًا لا ينطلى على دولة كبيرة مثل مصر.. والمطلوب من أنقرة العودة لحجمها الطبيعى سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، بعيدًا عن أوهام العودة للخلافة، وطموحاتها الاستعمارية، والاهتمام بشئونها الداخلية، والتخلى عن أوهام تركيا الكبرى، لأن عملية التمدد الوهمى التى يعيشها أردوغان تجعله ضعيفًا منزوع المصداقية.. وهو ما أثبتته الوقائع. فاستقبال الرئيس عبدالفتاح السيسى فى باريس، الذى كان أعلى مرتبة رسمية لاستقبال رئيس جمهورية فى فرنسا، والتى دفعت البعض إلى التعليق بأن ذلك «لم يحدث فى التاريخ، أن تم استقبال رئيس عربى كما حدث للسيسى فى فرنسا.. باريس كلها مُغلقة، أكثر من عشرة آلاف جندى فى الشارع، استقبال بالطائرات والخيول. وهو ما لم يحدث لبعض رؤساء أوروبا»، ثم تقلده وسام جوقة الشرف الفرنسى، أعلى تكريم رسمى، والوسام الأعلى فى فرنسا.. وما حققته الزيارة من انعكاسات إيجابية، ليس فقط على مجمل العلاقات الثنائية بين مصر وفرنسا، لكن أيضًا على مستوى التنسيق والتعاون فى الملف الليبى وشرق المتوسط لمواجهة أطماع تركيا، وما اكتسبته الزيارة من أهمية، خاصة أنها جاءت قبل أيام من قمة الاتحاد الأوروبى، والعقوبات التى فرضها على نظام أردوغان.
كل ذلك أثار الأحقاد التركية على مصر ورئيسها.. وعاد ياسين أقطاى لمهاجمة زيارة الرئيس السيسى لفرنسا، وكتب فى مقال نشره بصحيفة «ينى شفق» التركية: «إن مصر بلا شك هى واحدة من أهم قلاع العالم الإسلامى، إلا أنّ زيارة السيسى تعتبر فى الوقت ذاته رسالة دعم وتأييد لمن أساء للمسلمين عامة ولنبى الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم».. متجاهلًا أن الرئيس ماكرون اعتذر للمسلمين عن الرسوم الساخرة المسيئة لنبى الإسلام، وقال إنها مواقف فردية تعبر عن ناشريها ولا تعبر عن توجهات الدولة الفرنسية.. بينما أكد الرئيس السيسى لماكرون أنه من المهم حين نعبر عن رأينا، ألا ننتهك القيم الدينية، لأنها أعلى من القيم الإنسانية، فالأخيرة نحن صنعناها، أما الأولى فهى سماوية ومقدسة وتسمو فوق كل القيم. تجاهل أقطاى أن السيسى ذهب إلى باريس، ليتحدث للشعب الفرنسى خاصة والأوروبى عامة، ويؤكد لهم، بكل حزم، أن المسلمين لن يقبلوا الإساءة إلى نبيهم، مهما كانت مساحة الحرية الشخصية عندهم.. وهنا أسأل: أى الرجلين أنت يا أقطاى؟.. المُغازل لمصر، الداعى إلى ضرورة التصالح معها، أم المهاجم لرمزها وقائدها؟.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.