رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القس باقى صدقة.. وداعًا


اعتدنا عندما نتحدث عن شخص ما رحل عن عالمنا أن حديثنا كله يبدأ بكلمة «كان»، وهذا معناه أننا نتحدث عن ماضٍ لم يعد له حاضر ولن يكون له مستقبل، ولكن الأمر يكون مختلفًا عندما نتحدث عن العظماء والعمالقة، لأنهم وإن ماتوا وفارقونا بالجسد فإن أعمالهم وإنجازاتهم دائمًا تكون باقية.
وهذا الكلام ينطبق على القس باقى صدقة «٣٠ سبتمبر ١٩٢٩- ١٢ ديسمبر ٢٠٢٠»، ذلك الرجل الذى رحل عنا بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء والخدمة المتفانية للكنيسة والمجتمع، لقد تميز راحلنا الكريم بحلاوة فى الأسلوب وعذوبة فى اللسان ورقة فى التعبير، وقد حباه الله بمواهب متنوعة، فهو كان كاتبًا قديرًا وواعظًا بليغًا وخطيبًا مفوّهًا ومتحدثًا بارعًا، ومترجمًا متميزًا، فقد كان يتقن الإنجليزية كإتقانه العربية.. لقد كان القس باقى رجلًا له رؤية، وكان صاحب رسالة تهدف لتقديم محبة الله للإنسانية جمعاء، وهذه الرسالة السامية قدمها الراحل الكريم بكل الطرق، مقروءة ومسموعة ومرئية، وقدمها من خلال حياته اللامعة وسلوكه القويم، ودماثة خلقه.. وما فعله القس باقى صدقة يُذكّرنى بما قاله توفيق الحكيم: «لا خير فى فكرة لا يجعل منها الإنسان رداءه وكفنه، فيها يعيش، وفيها يُدفن». وشارك القس «باقى» فى تقديم العديد من البرامج الإذاعية بإذاعة حول العالم، وقدم مئات البرامج الإذاعية، وألّف وترجم الكثير من الكتب، كما زار الراحل الكريم بلادًا كثيرة حول العالم للخدمة وإلقاء المحاضرات فى إفريقيا وآسيا وأوروبا والدول العربية.
والقس باقى صدقة رغم عظمته ورغم علمه الغزير فإنه كان رجلًا متواضعًا بسيطًا، وكان متاحًا للكل، وكان باب مكتبه مفتوحًا على مصراعيه للجميع، للصغير قبل الكبير، وللفقير قبل الغنى، وللمسلم قبل المسيحى، وكان مبتسمًا دائمًا ومشجعًا للجميع.. وحرص القس باقى، من خلال تعاملاته وعلاقاته بين الناس، على نشر الحب والسلام ونبذ التعصب والكراهية ورفض الآخر، وسعى أن تكون المحبة هى السائدة فى العلاقة بين أطياف المجتمع، لأن المحبة أقوى من القانون، وأن قوة النفوذ بالحب أقوى من قوة النفوذ بالعنف، فبحق كان باقى صدقة حدوتة حب.
لقد رحل عن عالمنا باقى صدقة، ولكن هل مات العظيم العملاق؟ هل غابت وانتهت حدوتة الحب؟!
قال أحد الشعراء: «الناس صنفان.. موتى فى حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياءُ»، وباقى صدقة لم يكن ميتًا فى حياته، لذا فهو سيبقى حيًا حتى بعد مماته.. إنه كان بمثابة شمعة أضاءت فى دُجى الليل، واحترقت حبًا وتفانيًا فى خدمة الآخرين والوطن.. وحياته لم تكن عقيمة سقيمة، ولكنها كانت حياة عميقة مثمرة، وحياة الإنسان تُقاس بعمقها، والراحل كان بحق رجلًا نبيلًا وشريفًا وحكيمًا وعظيمًا بكل ما تحمله هذه الكلمات من معانٍ.
إن القس باقى صدقة سيبقى بصدقه ومحبته وبذله وتضحيته.. وهو لم يمت، فهناك كتبه ومقالاته، وهناك حواراته وأحاديثه الإذاعية والتليفزيونية، وهناك تلاميذه، ومحبوه، وهناك من عايشوه عن قرب، وهناك من عرفوا كيف كان يفكر هذا الرجل وكيف كان يعمل، ونحن نثق فى أن المسيرة ستستمر ولن تتوقف، فالرواد هم الذين يؤمنون بالعمل الجماعى ولا يستحوذون بأنفسهم على أى عمل، وباقى صدقة آمن بالعمل الجماعى وبإفساح المجال لآخرين، لذا فهو تلمذ كثيرين، وأقنعهم بفكره وبرؤيته، وهم سيسيرون على نفس الدرب.
يا أستاذنا الغالى، إن كان يعز علينا كثيرًا أن ترحل عن عالمنا وتفارقنا بجسدك، فإننا على يقين كامل بأن أمثالك تموت أجسادهم فقط، لأن الموت حق على الأحياء جميعًا، ولكن ذكراهم لا يمكن أن تموت، لأنك فرضت نفسك على الزمان والمكان فرضًا، فهل يمكن أن يفارقنا عطر نضالك وشذا سلوكك ورحيق قدوتك؟!، وهل من الممكن أن ننساك؟!، بالطبع لا وألف لا، فسيرتك العطرة باقية، ورسالتك الراقية خالدة، ونحن على يقين تام بأن القبر الذى يضم جسدك لن يستطيع أن يستأثر بك، لأن لك فى قلوب الذين يحبونك ذكرًا لن يموت، فلا يمكن أبدًا أن يموت من عاش فى قلوب الآخرين، ولا يمكن لنا أبدًا أن ننسى حدوتة الحب.