رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محنة الكائن السيبرانى



هذا كتاب، كصاحبه، لطيف الظل، رشيق العبارة، عميق المضمون، قد تظنه، وبعض الظن إثم، من خفته، ومرح كلماته، ورقة تعبيراته، هيِّنًا وبسيطًا، وما هو بالبسيط الهيِّن، وإنما هو السهل الممتنع، واليسير المُمتع، فى آن واحد، ويعلم العارفون مدى صعوبات هذا النوع من الكتابة، فهى لا تصدر إلا عن كاتب متمرس وقلم متمكن، يدعى البساطة لكى يتوسل بها إلى فهم القارئ، ويلجأ إلى التسرية عليه لكى يستدرجه إلى مواصلة القراءة، فلا يترك صفحاته حتى ينتهى من هذا الكتاب الجميل، الممتلئ بالأفكار، والكاشف للأسرار، والمتحدث إلى السرائر، والمنبه للضمائر.
من صفحة الغلاف: «السيبرانى: اضغط هنا»، يأخذك الأديب والكاتب الصحفى المتميز، «أكرم القصاص»، على حين غفلة، ليلقى بك إلى عالم الكتاب دفعة واحدة، وبلا مقدمات تطول بلا معنى، وما الحاجة لها، ونحن نعيش ليل نهار فى هذا العالم العجيب الرهيب، فما اجتمع اثنان، إلا وهذا «الشيطان» ثالثهما، يدخل معك إلى سريرك، ويصاحبك فى حلك وترحالك، ويشاطرك اللقمة والكلمة، ويقاسمك الضحكة والدمعة، يطير معك إن طرت، وتستظل بظله إن هجعت، وهو كاتم أسرارك، والمطلع على كنه أفكارك، تظنه حارسًا أمينًا عليها، فإذا به يهتك سرك ويكشف أمرك، ويجعل حياتك وحياة من يتماسون معك على المشاع، فيفضح أمرك، وأنت خالى البال، فى أربعة أركان المعمورة، لأن القاعدة المؤكدة فى هذا العالم العنكبوتى، أنه: «لا يوجد سر مع جوجل»، وقد أعذر من أنذر.
فأنت، كما يقول الكاتب: «مواطن شبكى»، وفى «عالم الشبكات» «شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى، أصبح المجتمع الشبكى واقعًا، بميزاته وعيوبه، عالمًا يمنح الناس الشعور بالمساواة، وأن لدى كل منهم رأيًا يود أن يقوله، مع رغبة فى الحديث، حتى وهم صامتون».
وهو عالم مُذهل ما إن تنزلق بقدمك إلى متاهاته وسراديبه، حتى تصبح جزءًا منه: تؤثر فيه وتتأثر به، والتأثير هنا درجات، فمن يمتلكون أعدادًا أكبر من المُتابعين أو «اللايكات» هم الأكثر تأثيرًا، بصرف النظر عما يملكونه فعلًا من معارف أو أفكار أو توجهات.
والأخطر فى هذا العالم الواضح الغامض، أنك «ما دمت قد أصبحت عضوًا فى هذا المجتمع الشبكى، فأنت تفقد جزءًا من حريتك، وتخضع لقواعد التأثير الكاسحة والخوارزميات واللجان والأفراد والجماعات، ولا تعرف ما إذا كانت الآراء والأفكار والأخبار المعروضة أمامك ضمن التدفق العادى، أم أنها جزء من سياق لجهات أو أفراد أو شركات أو مسوقى إعلانات أو شائعات أو عقارات أو برامج أو تدريبات على الحياة والقدرات».
لقد بدل «العالم الافتراضى» عصرنا وطبعه بطابعه، وغير من شخصياتنا ومسلكياتنا، وصنع منا أناسًا مختلفين، نرتدى ملابس غير ملابسنا، ونظهر بصورة لا تمت إلى الحقيقة، فى كثير من الأحيان، بصلة، وخلق «نجومًا» لا يشق لها غبار، وهى فى حقيقتها كائنات تافهة اصطنعت نجوميتها المزيفة صنعًا، فنانون موهومون، وسياسيون نكرات، وأحيانًا زعماء «افتراضيين»، رغم أنهم، فى الواقع، أجهل من دابة، وأعزل من مجذوم، لا علاقة لهم بالسياسة، و«دوشتها» من قريب أو بعيد.
ومصدر الخطر فى هذا كله، كما يقول الكاتب: «العالم الشبكى يضخ أفكارًا وخيالات تُعيد تشكيل الوعى، وتجرف كثيرين منا فى طريقها فيما يبدون متفرجين، وبينما يظن الواحد منهم أنه يتحكم فى عالمه، فإن هذا العالم يقوده ويعيد تشكيله ويفرض عليه ما يشتريه وما يقرأه أو ينشغل به سواء كان حقيقيًا أو افتراضيًا». فـ«خلف هذا العالم المتنوع آلاف، لكل منهم هدف، وربما يُمثل جهاز أمن، أو معلومات، أو مُطربًا أم نجمًا سينمائيًا، أو شركة تجارة إلكترونية، أو مركز أبحاث، أو حتى ممثلًا لإحدى شركات التقنيات، أو ربما «هاكر» يتربص بالمستخدم الساذج، ليسرق حسابه».
إنك فى هذا العالم العنكبوتى تضحى كائنًا منصاعًا، مسلوب الإرادة فـ«داخل هذا العالم وقّعت على تنازل عن روحك، مثلما فعل فاوست للشيطان»، وفيها تصبح مثل «المُدمن» الذى «لا يعترف بأنه دخل مرحلة الإدمان، ويُعلن دائمًا أنه قادر على ترك الكيف وقتما شاء».
والخلاصة، فى رأى الكاتب الواعى، ورأينا أيضًا: «اكتب اسمك فى تعليق على فيسبوك، فإذا ظهر بالأسود.. فأنت مراقب، وإذا بالأحمر.. فأنت مراقب فعلًا، وإذا أى لون تبقى مُراقبًا جدًا، وإذا لم يظهر أنت مُراقَب عادةً».. والعاقل مَن اتعظ.