رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسالة عن الفن والفلوس


وصلتنى رسالة من أديب صديق يقول فيها: «أتعلم.. تأتينى دعوات للكتابة من منابر مصرية وعربية لكنها فى معظمها دعوة للكتابة مجانًا. لا أحد يدفع، فكيف يعيش الكاتب؟ أريد نصيحتك، إلى متى أكتب مجانًا وقد أوشكت على إتمام نصف قرن من دون أن تكفل لى حرفتى أقل القليل؟».
كانت الرسالة مشبعة بالأسى فأعادتنى بالكامل إلى موقفى من تلك القضية، الذى تبلور على مدى زمنى طويل منذ أن بدأت علاقتى بالكتابة.
كنت أرى منذ البداية وأدرك أن الإبداع الفنى عامة لا يمكن أن يكون رهنًا بالمكافآت أو الأجور، رغم أهمية المقابل المادى، لأن الكاتب إذا ربط بين الأدب والعائد المادى فسوف يتوقف ولن يقدم شيئًا.. وهذه باختصار قصة الفرق بين كاتب لامع الموهبة مثل عادل كامل وبين نجيب محفوظ، فقد بدأ الاثنان معًا، لكن كامل حين وجد أن روايتيه «ملك من شعاع» و«مليم الأكبر» لم تعدا عليه بشىء، توقف نهائيًا، بينما واصل نجيب محفوظ مشروعه الأدبى فى ظروف مادية غير مبهجة أرغمته على كتابة سيناريوهات للأفلام.
قلت لصديقى ردًا على رسالته: «إذا توقفت بسبب العائد المادى ستخسر ليس فقط العائد المحتمل مستقبلًا، لكنك ستخسر- قبل الفلوس- قدرتك الأدبية، لأن الاستمرار فى العمل يجعلك تراجع وتدقق يوميًا كلمات ما أو تعبيرات فى اللغة، ويجعلك تطالع كل ما يُنشر، وفى كل مرة يكتب فيها الأديب أو ينشر مجانًا يكسب فى المقابل معرفة جديدة ساقته إليها المادة التى يكتب عنها، أما إذا ربط الأديب الكتابة بالمال، الذى لا يأتى عادة بسهولة، فإن الأديب يخسر القدرة، والموهبة، والدربة، وكل ما تفيض به الكتابة من دون انقطاع.. أيضًا فإن تاريخ الفن والأدب قلما عرف فنانًا عاش واغتنى من أعماله.
كان الأديب الروسى العملاق دوستيوفسكى يكتب يوميًا ليسدد ديونه، أما الرسام العالمى فان جوخ، الذى عاش ستة وثلاثين عامًا رسم خلالها نحو ألف لوحة فنية، لم يبع منها واحدة فى حياته!.. لماذا كانوا يستمرون إذن لو أن الإبداع طريق إلى المال أو حتى إلى المجد والشهرة؟.
المبدع يستمر ويواصل لأنه يحصل على مكافأة أخرى من نوع مختلف تمامًا، لا علاقة لها بالأوراق النقدية، هى أن يعيش لما خُلق له، متوافقًا مع طبيعته التى خُلق بها، كما تتفق طبيعة العندليب مع التغريد، وطبيعة الشجر مع النماء والشمس، فالرغبة فى التعبير، ومتعة التعبير بإتقان جزء أصيل فى كل مبدع يجعله لا يرى مكافأة أهم من ممارسة دوره ووجوده، ليس الآن فقط بل ومستقبلًا، لأن الفن إحدى أقوى الوسائل السحرية التى تحمى قلب وعقل الفنان، وهو بهذا المعنى حياة يقظة وقدرة وطاقة متجددة على التفكير والتخيل والحلم، لذلك يتحمل المبدعون كل مشقة من أجل أن تظل زهرة الإبداع مورقة بين أياديهم.
ليست القضية فى الفلوس ولم تكن كذلك قط، ولذلك يقول مارك توين عن كتابه «ما الإنسان؟» الذى نشره عام ١٩٠٦، إنه بدأ الدراسة من أجل إعداد هذا الكتاب قبل خمس وعشرين سنة، وكتبه قبل تاريخ نشره بسبع سنوات، وراجعه بعد ذلك مرة أو مرتين كل عام!، ولا يمكن أن تكون الفلوس هى الدافع وراء كل ذلك الجهد، فقد تلقى مارك توين أجره عن الكتاب منذ صدوره، لكن هاجسًا داخليًا يظل يلح عليه، كما يلح الغناء على العندليب بمزيد من الإتقان والجمال.
وفى ذلك الصدد يقول ديفيد بالداتشى الروائى الأمريكى، الذى ترجمت رواياته إلى ٤٥ لغة: «ليس الأمر أننى اعتقدت أننى سأكسب عيشى من الكتابة، فحتى حين تقوم بنشر قصة قصيرة فإن أكثر ما يعطونه لك هو نسخ مجانية من المجلة، وهذا لا يساعد حسابى البنكى كثيرًا»!.
وختمت رسالتى لصديقى بقولى: «نحن نكتب ليس لأن أحدًا سيدفع لنا، بل لأننا محكومون بالكتابة، كما أن الأشجار محكومة بأن تورق، والقلب محكوم بأن ينبض، وما من قلب يسأل: كم ستدفعون لى إن أنا واصلت الخفق بانتظام؟».