رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المُفكر المغربى إدريس الكنبورى: شعار «الإسلام هو الحل» قاد «الإخوان» لنهايتها (حوار)

إدريس الكنبورى
إدريس الكنبورى


ينشغل المفكر والروائى المغربى، إدريس الكنبورى، فى كتاباته وإصداراته المتنوعة بالقضايا المتعلقة بالفكر الدينى والإسلام السياسى، ففضلًا عن عمله كمستشار بمجلس الجالية المغربية بالخارج، وعضويته فى «منتدى تحليل المعلومات ودراسات التطرف فى برشلونة»، كان له عدد من المؤلفات فى هذا الصدد منها «الإسلاميون بين الدين والسُلطة: مكر التاريخ وتيه السياسة»، و«شيوعيون فى ثوب إسلامى: محطات فى الإسلام السياسى والسلفية»، وكذلك «وكانوا شيعًا: دراسات فى التنظيمات الجهادية المعاصرة».
يعمل الكنبورى فى الإطار ذاته على عدد من المؤلفات التى ستصدر قريبًا، وهى «التكفير الدينى والتكفير السياسى»، و«الإصلاح الدينى: نحو رؤية جديدة»، وكذلك «حرية الاعتقاد فى اليهودية والمسيحية: دراسة مقارنة فى ضوء الفلسفة الدينية فى الإسلام». وفضلًا عن عمله البحثى، كان اهتمامه بالفكر الدينى والتيارات الإسلامية حاضرًا كذلك فى كتاباته الروائية، ومنها «زمن الخوف»، و«الرجل الذى يتفقد الغيم»، و«الكافرون».
«الدستور» حاورت الكنبورى حول بعض الأطروحات المُتضمَنة فى أعماله، منطلقين منها للحديث حول رؤيته لبعض المستجدات المُتعلقة بالوضع الراهن لتيار الإسلام السياسى، وموقعه فى ظل التغيرات الدولية والمحلية.

■ فى كتابك «الإسلاميون بين الدين والسلطة» اعتبرت أن «الإسلام الرسمى» كان سببًا غير مباشر فى ظهور ونمو الإسلام السياسى منذ بدايات الدولة الحديثة.. كيف يمكن أن تشرح لنا هذه المسألة؟ وهل تظن أن تلك الإشكالية ما زال لها أثر فى الوقت الراهن؟
- هذا يعود إلى التطور التاريخى لمأسسة الإسلام، فقد شرحت فى كتابى هذا كيف أن الإسلام فى العصر الحديث، ومع نشأة الدولة الوطنية الحديثة فى العالم العربى، بعد الاستقلال السياسى، انتقل من سلطة تملكها الجماعة والأمة، إلى سلطة بيد الدولة. لقد لعب الاستعمار دورًا أساسيًا فى هذا الانتقال، فقد كان هدف البلدان الأوروبية تقليص النفوذ الذى يتمتع به العلماء فى البلدان العربية والإسلامية، والحد من نفوذ المؤسسات الدينية، ونقل السلطة الدينية من أيدى هذه المؤسسات إلى الدولة الجديدة، وربط المؤسسة الدينية بالدولة، بحيث تصبح المؤسسة الدينية خاضعة للدولة بدلًا من أن تبقى الدولة خاضعة للمؤسسة الدينية، كما كان الحال فى الماضى.
وقد اتخذ هذا الأمر عدة مظاهر، حيث بدأ الأمر بما يسمى إصلاح المؤسسات الدينية، ثم إصلاح التعليم الدينى، وإنشاء نظام التعليم العصرى الذى صار بديلًا للتعليم الدينى التقليدى، ثم القضاء على نظام الوقف الذى كان يموّل التعليم الأهلى فى المجتمعات العربية الإسلامية، ويموّل العلماء والفقهاء دون تدخل من الدولة، إلى غير ذلك من الإجراءات التى شجع عليه الاستعمار الأوروبى، وهكذا ما كاد العرب والمسلمون يحصلون على الاستقلال السياسى حتى كانت بنية السلطة الرمزية والعلمية للدين قد تغيرت تمامًا.
أما بخصوص العصر الحالى، فلم يعد من الممكن العودة إلى التاريخ القديم. ما حصل فى العصر الحديث صار مكسبًا أساسيًا بالنسبة للإسلام وللدولة معًا، ويمكننى أن أقول بكل وضوح إن الوضع الجديد فى هذا العصر- حيث يخضع الدين لتدبير الدولة- هو الوضع الذى يناسب الحركات الإسلامية والإسلام السياسى نفسه، لأنه هو من يتبنى الدعوة إلى ربط الدين بالدولة، فهذا الربط الذى نعيشه اليوم هو نفس ما يدعو إليه الإسلام السياسى، وبمعنى آخر، ومن حيث الشكل، فإن ما يطالب به الإسلام السياسى هو المزيد من الربط بين الدولة والدين من جهة، وأن يكون الإسلاميون هم من يقود الدولة من جهة ثانية.
■ كيف يمكن التعامل راهنًا مع ذلك الاستدعاء لمرويات تاريخية تؤيد أو تعزز أفكار العنف والتطرف من التراث الإسلامى؟ مَن المنوط به الوقوف أمام كل هذا الكم من المغالطات أو الأحكام المعممة بخصوص سياقات تاريخية معينة؟
- التعامل مع هذه المرويات وغيرها ينطلق من إعادة النظر فى التعليم والتربية والتكوين، أى نشر التعليم الدينى المتنور المبنى على القواعد الحديثة التى تمنح مساحة كافية للعقل لكى ينتقد ويحلل ويراجع، شريطة أن تكون هذه المراجعات شاملة، للدين ولغير الدين، وإلا أصبحنا أمام سلطة أخرى تفرض نفسها على الناس باسم العقل أو المراجعة والنقد.
فأنا أعتقد أن جميع الديانات والثقافات تتضمن أقساطًا متفاوتة من التطرف والعنف، بل جميع الأيديولوجيات والفلسفات، أليست النظرية الماركسية مثلًا نظرية تتبنى العنف والإرهاب والتطرف باسم الثورة؟ بل إن ماركس وإنجلز لديهما كتيب صغير حول فوائد العنف بالنسبة للثورة. أليست فلسفة «نيتشه» العدمية مثلًا نداءً إلى العنف؟ ويمكننا ذكر الكثير من الأمثلة حول مشاهد ودعوات العنف فى الديانات والثقافات والفلسفات الحديثة والمعاصرة، حتى لقد قيل بأن العنف هو محرك التاريخ.
إذن نحن ندعو إلى إجماع عالمى على رفض العنف بمختلف أشكاله، سواء كان باسم الدين أو السياسة أو الاقتصاد، وتتحمل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، المسئولية الكبرى فى هذا المشروع، من أجل خلق مجتمع إنسانى خالٍ من العنف. ولكن هذا المشروع مشروع طوباوى لا يمكن للغرب أن يتبناه، لأن القضاء على العنف سوف يقضى بالتدريج على الرأسمالية العالمية، ويهدم المصالح الغربية فى العالم المتخلف الذى لا يسيطر عليه الغرب بالجاذبية الليبرالية أو الثقافية أو بقصائد الغزل، بل بالعنف. ولكن مع ذلك ينبغى أن نستمر فى التشبث بالأمل فى أن يأتى يوم نرى فيه أتباع الديانات وقد تخلوا عن استعمال العنف، وأصبحوا يستعملون الكلمة كوسيلة للتحاور والإقناع، وتم القضاء على كل أشكال العنف والإرهاب فى العالم.
■ فى هذا الصدد، ما أبرز المشاريع الفكرية العربية التى تعاملت مع التراث بشكل ملائم ومهم برأيك، لا سيّما أنك تتخذ مواقف نقدية من مشاريع عدة مثل إنجازات محمد أركون ومحمد شحرور؟
- قضية التعامل مع التراث العربى الإسلامى قضية مُتشعبة ومُركبة، لا يمكن أن نوفيها حقها فى حديث مثل هذا. وهذه القضية تبدأ أولًا من طرح تساؤلات محورية والإجابة عنها: ماذا نعنى تحديدًا بالتراث؟ ماذا نعمل به؟ ماذا نغير فيه؟ من يعيد النظر فى التراث؟ أعتقد أن هذه الأسئلة مهمة جدًا ومحورية، وهى التى تساعد أى باحث على تحديد موقع الدراسات الحديثة فى نقد التراث من النجاح أو الفشل.
فالتراث عند البعض يشير إلى كل إنتاج متروك من الماضى، بما فى ذلك النصوص القرآنية والحديثية، بينما يرى آخرون أن التراث هو ما خلفه السابقون من إنتاجات دون القرآن والحديث. كما أن هناك مَن يرى أن التراث هو التراث الفلسفى، وآخرين يرون أنه التراث الفقهى، وآخرين يرون أنه التراث التاريخى المكتوب، وآخرين أنه التراث العقدى فى علم الكلام والعقيدة، إلى غير ذلك.
وفيما يتعلق بالسؤال الثانى حول ما العمل بالتراث؟ هناك من يرى أن الأهم هو التخلى عن التراث نهائيًا، وهناك من يدعو إلى غربلته، وهناك من يدعو إلى تهذيبه ونقده، ولكن لا أحد يضيف إليه شيئًا، بل الجميع يكتفى بالنقد ثم يمر. وفى السؤال الثالث حول ماذا يمكن أن نغير من التراث؟ هناك من يطالب بتغيير كل شىء، بما فى ذلك القواعد التى ترسخت جيلًا بعد جيل من الأساس، مثل أصول الفقه مثلًا، أو قواعد النحو واللغة، إلى غير ذلك.
وفيما يتعلق بالسؤال الرابع حول مَن له الحق فى نقد ومراجعة التراث؟ نلاحظ أن بعض من يتصدون للتراث ليسوا من أهله، ولا من المختصين فيه، ولا ممن يتقنون لغة التراث، ونجد أن المختص فى الفلسفة يخوض فى الفقه وأصوله، والمختص فى الأصول يخوض فى التفسير، وهكذا. فقضية التراث قضية مركبة ومتشعبة، ولكن هناك وجهًا آخر من نقد التراث ومراجعته لا نلتفت إليه كثيرًا، وهو ما يقوم به العلماء والفقهاء من اجتهادات وتفسيرات حديثة متجددة، فهناك علماء لديهم فتاوى جديدة ومواقف متنورة، هؤلاء أيضًا محسوبون على تيار نقد ومراجعة التراث.
■ قلت فى كتابك عن الإسلاميين إن وصولهم إلى السلطة منح المواطن العربى الفرصة للفصل بين مشروع السلطة والدين.. ما الذى يعنيه ذلك برأيك فيما يخص مستقبل التيار الإسلامى؟ هل لُفِظ بغير رجعة أم أنه من الممكن أن يعيد تقديم ذاته مرة أخرى؟
- لقد ختمت كتابى «الإسلاميون بين الدين والسلطة» الذى أصدرته فى بداية عام ٢٠١٣ قبل أن يتأكد فشل الإسلام السياسى، بفصل تحت عنوان «من الإسلاميين إلى الإسلام»، قلت فيه إن التحولات والتطورات التى يشهدها الإسلام السياسى فى العالم العربى وغير العربى سوف تنتهى بوضع الإسلام السياسى فى المتاحف، لأن المواطن المسلم أصبح أكثر وعيًا وإدراكًا لأهمية الإسلام كدين أولًا قبل أن يكون كسياسة، ولأنه يدرك مع الوقت أن الإسلام السياسى ليس بتلك الطهرانية والعفة التى كان يسمعها فى الماضى عندما كان الإعلام قليلًا والمعلومات شحيحة والكتابات نادرة والتنظيمات الإسلامية السياسية فى بداياتها كمشروع جديدة يعد بالكثير ويرسم عالمًا ملونًا للمواطنين.
اليوم تبين أن الإسلام السياسى لا يمكن أن يكون أقل فسادًا من التيارات الأخرى، وأنه يمكن أن يكون مدخلًا إلى الدمار الأهلى عوض البناء، والصراع عوض الاتحاد. ولذلك أنا أعتقد أنه مع تزايد التدين فى المجتمعات يزداد تراجع الإسلام السياسى.
■ فى كتابك «شيوعيون فى ثوب إسلامى» قلت إن شعار الإسلام هو الحل كان حالة ارتداد كبرى فى تاريخ الإسلام المعاصر أكثر ممّا كان انعكاسًا لحالة امتداد نحو التعاطى المتجدّد مع قضايا الأمة.. هل المعضلة فى الشعار ذاته الذى يختزل متطلبات ومقتضيات العصر بشكل غير منطقى أم فى التجربة الفعلية التى انطلقت منه؟
- هى فى كليهما، فى الشعار وفى التجربة، لأن وظيفة الشعار أساسًا هى ترسيخ مقولة فى وجدان الناس، بحيث تصبح مع الوقت نوعًا من العقيدة السياسية أو الاجتماعية أو حتى الدينية، ومن هنا تنشأ المشكلة بحيث يصبح الشعار ضاغطًا من الناحيتين السياسية والاجتماعية، ومع الزمن تصبح أسيرًا له، وهذا ما حصل مع تيار الإسلام السياسى، حيث أصبح شعار «الإسلام هو الحل» عبئًا عليهم هم قبل أن يكون عبئًا على المجتمع.
لقد أصبح الإسلاميون رهائن هذا الشعار، لأن هذا الشعار يفترض وجود حلول لجميع المشكلات بمجرد نعت حكم ما بأنه حكم إسلامى، أو بمجرد وصول جماعة دينية إلى السلطة، وهذا يجعل ما ينتظره الناس من الإسلام السياسى كبيرًا، بحيث يتوقعون حلولًا لجميع المشكلات وانفتاح أبواب الجنة فى وجوههم، ولذلك أنا أعتقد أن هذا الشعار هو الذى أسهم فى القضاء على الإسلام السياسى وكشف الفجوة بين الشعار والممارسة، إن هذا الشعار مثل الحصان الذى رباه فارس ليخوض به حربًا لكنه عندما كبر دهسه وأرداه قتيلًا.
ولكن المشكلة الأساسية أن هذا الشعار كان شعارًا أيديولوجيًا ولم يكن شعارًا واقعيًا، بمعنى أنه ليس نابعًا من واقعية الإسلام كدين، بل كان نابعًا من براجماتية الإخوان المسلمين فى تلك الفترة من النصف الأول من القرن الماضى، لأنهم وضعوه فى مقابلة الأيديولوجيا الاشتراكية والليبرالية، ولذلك قلت فى ذلك الكتاب إن الإخوان المسلمين اختاروا شعارهم عبارة عن المصحف والسيف، فى نوع من المحاكاة لشعار الشيوعية السوفيتية المتمثلة فى المطرقة والمنجل، وبنفس الشكل تقريبًا، وكان ذلك، كما لا يخفى، بداية أدلجة الإسلام وتحويله من دين إلى مجرد أيديولوجيا للحكم.
■ فى السياق ذاته، كيف تقرأ بيان هيئة كبار العلماء بالسعودية بشأن إعلان «جماعة الإخوان إرهابية وتتبع أهدافها الحزبية»؟ هل تغيُر الإدارة الأمريكية وما يسببه من تخوفات من التعامل «بأسلوب ناعم» مع الإسلاميين هو الذى دفع السعودية لاتخاذ هذا الموقف؟
- نعرف مواقف التيار السلفى العلمى أو التقليدى فى المملكة العربية السعودية وخارجها من التيار الإخوانى أو الإسلام السياسى، وهى نفس المواقف التى عبر البيان عن بعض منها، مثل طلب الحكم والسلطة والإيمان بالنزعة التنظيمية الحزبية وتضخيم الجانب السياسى فى الإسلام على حساب الجانب الشرعى.
ولكن هذا البيان كان فيه نوع من التذكير بتلك المواقف التقليدية فى توقيت دقيق يتعلق بالانتخابات الأمريكية ونجاح بايدن وسقوط ترامب الذى كانت السعودية تراهن عليه كثيرًا وتتوقع ولاية ثانية له، فالرياض تخشى من أن تتبنى الإدارة الديمقراطية فى أمريكا دعم الإسلام السياسى، ما يعيد المنطقة إلى نقطة البدء، ولذلك أعتقد أن البيان هو بمثابة رسم لحدود التحالف بين الولايات المتحدة والسعودية فى المرحلة المقبلة، وتذكير بالسياسة السعودية فيما يتعلق بتيار الإسلام السياسى، ومفاد ذلك أن المملكة لديها قضيتان تتحرك بموجبهما فى الساحتين الدولية والإقليمية، هما إيران والإسلام السياسى.
■ هل تعتقد أن الإجراءات الأوروبية المكثفة لمكافحة الإرهاب تتزامن معها موجة من الإسلاموفوبيا التى يتم تعزيزها؟ وما الذى سينجم عن تلك الحالة؟
- لا توجد استراتيجية أوروبية موحدة ومنسجمة ومهيكلة لمواجهة الإرهاب فى القارة الأوروبية، فهناك اختلاف وتباين فى المواقف داخل الاتحاد الأوروبى تجاه قضية الإرهاب وقضية الهجرة، لأن بعض الدول يربط بينهما، مثلما نرى فى التباين بين فرنسا وألمانيا فى هذين الملفين، أو مثلما نرى بين اليمين المتشدد ويمين الوسط فى معالجتهما.
ولكننا اليوم، وبعد ما حصل فى فرنسا بخصوص الكاريكاتير وتصريحات الرئيس مانويل ماكرون، نلاحظ أن الموقف الفرنسى يسير نحو التشدد ويسعى إلى أن يجر الاتحاد الأوروبى خلفه، وهو ما لاحظناه فى القمة المصغرة التى عقدت قبل أيام بدعوة من باريس والنمسا. ولكن المواقف الفرنسية من شأنها أن تشجع على يقظة النزعة الإسلاموفوبية، أو كراهية المسلمين، وأعمال العنصرية، لأن ربط الهجرة بالإرهاب والتطرف سوف يدفع الكثيرين إلى الاقتناع بأن المهاجر يرمز إلى التطرف، وبالتالى بدلًا من أن يركز على محاربة التطرف سوف يركز على محاربة الهجرة كأصل للتطرف. والأمر الأكثر فداحة هو أن خطاب الحكومة الفرنسية اليوم يقترب أكثر فأكثر من خطاب اليمين المتطرف الذى كانت تمثله مارين لوبين.
■ بعد الضربات التى تلقتها مشاريع قطر وتركيا بالمنطقة.. هل من المتوقع فى رأيك أن تمنحهم الإدارة الأمريكية الجديدة قُبلة الحياة؟ ولماذا؟
- يجب الإقرار صراحة بأن كل المشاريع فى العالم العربى اليوم قد مُنيت بالفشل، فنحن منذ حرب يونيو ١٩٦٧ نجر وراءنا ذيول الهزيمة، وقد تحولنا من شعار «محو آثار العدوان» الذى علا فى السماء العربية خلال السبعينيات، إلى التعايش مع آثار العدوان اليوم، وهذا ما نراه بكل وضوح اليوم فى الساحة العربية. فنتيجة للانقسام والشرخ العربيين صرنا ننظر إلى كل مشروع فى المنطقة باعتباره يشكل تهديدًا لنا، وذلك نتيجة لضعفنا وعدم قدرتنا على صياغة مشروع عربى مشترك.
وبطبيعة الحال فإن بعض الأنظمة العربية، خصوصًا فى الخليج، سوف ترى فى هذا الضعف العربى العام وعدم وجود مشروع عربى مشترك يسند ظهرها مبررًا للانسياق وراء مشاريع أجنبية، ومسوغًا إلى ضرب بعض الدول العربية دفاعًا عن مشروع لا ينتمى إلى الوطن العربى. فالمشروع التركى حقق نوعًا من النجاح إن صح التعبير خلال السنوات العشر الماضية على صعيد الأيديولوجيا لدى حركات الإسلام السياسى، ولكنه انتهى اليوم إلى الإخفاق، لأن الرأى العام العربى بات يدرك أن النظام التركى مهما كانت شعاراته هو فى النهاية ابن القومية التركية والتاريخ التركى، ولا يمكن للتاريخ التركى أن يصير تاريخًا عربيًا.
وأعتقد أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد تتحلى بكثير من الواقعية مقارنة بمرحلة ترامب فى التعاطى مع ملفات المنطقة العربية، خاصة منطقتى الخليج والشرق الأوسط، لأن السنوات التى مضت من ولاية ترامب شهدت تراكم الكثير من النزوع الشعبوى الذى كان كثير منه فى غير صالح الأمة العربية.
■ فضلًا عن عملك البحثى، تحضر قضايا التطرف والإسلام فى أعمال أدبية لك.. ما الدافع الذى قادك للكتابة عن تلك القضايا فى ثوب روائى؟ ما الفضاءات التى أتاحها لك العمل الأدبى لم يكن من الممكن الولوج إليها عبر العمل البحثى؟
- الأدب جماع العلوم كما كان يقول الناقد والمفكر الفلسطينى إدوارد سعيد، ففى الأدب تلتقى جميع الأجناس المعرفية من تاريخ وفلسفة وسياسة ودين وأدب، لأن الأدب هو نوع من «الخلق» لعالم افتراضى متخيل تجتمع فيه كل مكونات العالم الحقيقى، الفارق سيكون فى أن هذا الأخير متخيل فحسب وليس واقعيًا.
لذلك يكون الأدب فى الكثير من الأحيان نافذة يطل منها الباحث والمفكر على جوانب أخرى من المشهد لا يمكن رؤيتها من خلال البحث والكتابة الفكرية، لأن هذه الكتابة تتميز عادة بالمباشرة والتقريرية والجفاف، وتحد بالطبع من إمكانيات التعبير الذاتى نظرًا لأن الكتابة البحثية تنشد الموضوعية، لذلك فأنت مضطر فى الكتابة البحثية إلى التضحية بذاتك وعواطفك وآمالك ومواقفك وآرائك الخاصة، لأن هذه العناصر تعتبر فى الكتابة البحثية عيوبًا، لكنها فى الكتابة الأدبية تصبح مزايا.
وقد وجدت فى الكتابة الأدبية فسحة للقول لم أجدها فى الكتابة الفكرية التقريرية، ونشرت إلى حد اليوم ثلاث روايات هى «زمن الخوف»، وهى أول رواية مغربية عن أحداث ١٩٥٦ بين حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، التى قتل فيها الكثير من أتباع الحزب الثانى، وجرت فى المدينة الصغيرة التى نشأت بها، وكان صراعًا حول السلطة مباشرة فى أعقاب الاستقلال عن فرنسا.
وكانت الرواية الثانية تحت عنوان «الرجل الذى يتفقد الغيم»، والثالثة تحت عنوان «الكافرون»، وهى أول رواية فى المملكة المغربية عن ظاهرة السلفية الجهادية، استوحيتها من احتكاكى بالسلفيين الجهاديين والكتابة عن الموضوع طيلة سنوات طويلة، وهى مستلهمة من تجربة حقيقية، مع الكثير من الخيال الروائى، وهناك عمل روائى رابع سيرى النور قريبًا، يدور حول محنة اليهود المغاربة فى عهد الاستعمار الفرنسى، ورغبة الحكومة الفرنسية التابعة للنازية الألمانية بعد غزو باريس فى ترحيلهم من المغرب لاعتقالهم فى معسكرات الموت.
■ كيف يمكن قراءة تلك التخوفات من انتعاش تيار الإسلام السياسى فى ظل ولاية الرئيس الأمريكى بايدن؟
- الإدارات الأمريكية ليست لديها استراتيجية ثابتة ناحية العالم العربى، وهى مستعدة لدعم أى تيار إذا كان يضمن لها مصالحها الاقتصادية والسياسية فى المنطقة، خاصة ما يتعلق بالنفط وأمن إسرائيل، لذلك يجب أن نتوقع كل شىء ولا شىء من الإدارة الأمريكية الجديدة. لقد حاولت إدارة باراك أوباما فى بداية الربيع العربى الانسياق وراء الأحداث، ودعم الجماعات الإسلامية بدعوى أنها الأكثر قدرة على ضبط الشارع، وأنها تتمتع بالمشروعية، لأنها لم يتم اختبارها من قبل، ولكن الاندفاع المغامر الذى قام به الإسلاميون جعل الإدارة الأمريكية لأوباما تتراجع إلى الخلف.