رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أدب الطفل.. سلاح مصر الناعم «2»




لم يستطع أحد أن يكمل ما بدأه شوقى، فى أول الأمر.. وخمد الاهتمام بأدب الأطفال بعد شوقى، وإن كان هناك بعض الإسهامات التى جاءت فى هذا السبيل.. إذ إن شوقى كان بحق، رائد أدب الطفل فى العصر الحديث.. أخذ من الغرب الخصائص الفنية والأسس والقواعد العامة، لكنه ابتكر مما قرأ من التراث ومما عرف من التجربة الشخصية موضوعات كثيرة.. وسرعان ما جاء محمد عثمان جلال، الذى عمد إلى ترجمة الكثير من حكايات لافونتين، فى كتابه «العيون اليواقظ فى الحكم والأمثال والمواعظ»، بأسلوب شعرى مزدوج القافية، ولم يتقيد فى ترجمته بالأصل، وإنما حاول إضفاء الطابع المصرى على ترجماته، وأن يكتبها على شكل الزجل.. وبعده ألف إبراهيم العرب كتاب خرافات على لسان الحيوان، أسماه «آداب العرب»، قلد فيه لافونتين.. وفى عام ١٩١٤، ترجم أمين خيرت الغندور مجموعة قصص «كنوز سليمان»، للكاتب الإنجليزى راندها جرد، التى قررتها وزارة المعارف على طلبة المدراس آنذاك.
فى عام ١٩٠٣ كتب على فكرى كتاب «مسامرات البنات»، وفيه كثير من الأدب المتخصص للأطفال عامة، وللبنات خاصة.. ثم كتب عام ١٩١٦ كتاب «النصيح المبين فى محفوظات البنين»، وضمنه كثيرًا من الحكم النثرية والنظمية وبعض الأناشيد له ولعدد من الشعراء والكتاب، كشوقى والرافعى واليازجى.. لكن الخطوة الكبيرة فى مسيرة أدب الطفل فى هذا العصر، بدأت فى العقد الثالث منه، عندما ظهر اثنان من رواد هذا الأدب، هما محمد الهراوى وكامل الكيلانى.. وأول ما كتبه الهراوى للأطفال منظومات قصصية بعنوان «سمير الأطفال للبنين» ثم «سمير الأطفال للبنات»، فى ثلاثة أجزاء، ثم أغانى الأطفال فى أربعة أجزاء.. وكتب قصصًا نثرية كثيرة، وواضح فيما كتبه بروز الهدف وسهولة العبارة، ووضوح المعنى وجمال الأسلوب، بالإضافة إلى الحض على تقديس العمل واحترامه.. فهو من كتب «أنا فى الصبح تلميذ.. وبعد الظهر نجار.. فلى قلم وقرطاس.. وإزميل ومنشار.. وعلمى إن يكن شرفًا.. فما فى صنعتى عار.. فللعلماء مرتبة.. وللصناع مقدار».
ثم جاء كامل الكيلانى، الذى يعده أكثر الباحثين الأب الشرعى لأدب الطفل فى اللغة العربية، وزعيم مدرسة الكاتبين للناشئة فى البلاد العربية كلها.. يقول عنه عبدالتواب يوسف، وهو من كتب أيضًا للطفل: «وأشهد أنه رائد ورائع بكل المقاييس.. وأنه صاحب منهج فيما قدم، ولم يعتمد على أدب الغرب فحسب، بل إن أعماله العربية تشهد له بالوعى، كما كان له فضل السبق فى تقديم أعمال إفريقية وهندية لأطفالنا، جنبًا إلى جنب جليفر وروبنسون كروزو».. واهتم الكيلانى بتحبيب اللغة العربية للأطفال، وكان يتدرج فى الكتابة حسب سنوات العمر، ويحاول إيقاظ مواهبهم واستعداداتهم، ويقوى ميولهم وطموحهم، وينتهى بهم إلى حب القراءة والمثابرة عليها.. وترك سلاسل كثيرة فظهرت «مكتبة الطفل» بأكثر من مائتى قصة، وأخذ من التراث العربى والإسلامى، ومن الثقافات الأخرى الغربية والشرقية، وكتب فى السيرة النبوية مجموعة «من حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم».. وكان يدرك أن الطفل يحتاج لتغذية عقله ومشاعره إلى شتى الطعوم، كما يحتاج جسده لأنواع الفيتامينات.. فكتب لتغذية العقول والتفكير ولتنشيط الخيال، ولتربية الوجدان والمشاعر، ولتهذيب النفوس، ولإمتاع الصغار.
واهتم بشكل الكلمات واختيار الألفاظ لتزويد الأطفال بثروة لغوية، وتدرج بهم ليصلهم بتراثهم.. وكان يسير على منوال المثل الإسبانى فى قصة «حى بن يقظان» الذى يقول بأن امرأة إسبانية كانت تحمل عجلًا صغيرًا كل يوم وتصعد به السلم وتهبط، وكبر العجل حتى صار ثورًا، وهى على عادتها، تحمله كل يوم دون أن تتأثر، لأنها لم تحس بالزيادة الطفيفة التى كانت تزيد كل يوم فى وزن العجل.. ولذلك كان يحرص على أن تكون اللغة التى يكتب بها للطفل أرقى من مستواه قليلًا حتى يستفيد بمحاكاتها.
ثم ظهر عدد من الكتاب، منهم حامد القصبى الذى كتب «التربية بالقصص لمطالعات المدرسة والمنزل»، وهى قصص مترجمة مع شىء من التصرف، وكان هدفه تربويًا، لذلك وزعتها وزارة المعارف فى مدارسها آنذاك.. ثم اتسع الاهتمام بهذا الأدب وشارك فيه كثير من الأدباء والشعراء والقُصاص، مثل الشاعر محمود أبوالوفا وعبدالرحيم الساعاتى وعبدالحميد جودة السحار وعطية الإبراشى ومحمد أحمد برانق وعبداللطيف عاشور ومحمد سليم وعطية زهرى وأحمد مختار البزرة وإبراهيم عزور ووصفى آل وصفى وأحمد نجيب، وأحمد بهجب، الذى كتب سيرة بعض الأنبياء للأطفال، ونبيلة راشد وجمال أبورية وإبراهيم شعراوى ونادر أبوالفتوح وغيرهم. إلا أننا نتوقف عند عوائق انتشار أدب الطفل، التى تمنع وجوده بشكل أكبر، ومنها أن البعض ما زال يعتقد أن الكتابة للطفل هى كتابة وعظية، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع، فأدب الطفل هو فن أصيل، وخالص، كأدب الكبار تمامًا، وهو لا يختلف عنه إلا فى الأسلوب وطريقة طرح المواضيع. إلا أننا يجب أن نستبشر بالإعلان عن عدة جوائز لأدب الطفل، تقدمها مؤسسات وهيئات مصرية مهمة، مثل جائزة المجلس الأعلى للثقافة التى تشرف عليها لجنة ثقافة الطفل بالمجلس، برئاسة الكاتبة نجلاء علام، رئيسة تحرير مجلة قطر الندى، وكذلك جائزة باسم يعقوب الشارونى، تقدمها الهيئة الدولية للصحافة العربية، بالتعاون مع مركز توثيق وبحوث مكتبة الأطفال، والمخصَّصة لطلبة كليات التربية المبكرة، بالإضافة إلى جائزة ثالثة، وهى من اتحاد كتاب مصر، مصحوبة بمؤتمرات حول أدب وثقافة الأطفال، الهدف منها، اكتشاف الموهوبين، وتحفيز أصحاب المواهب على الاستمرار فى الإنتاج الإبداعى الأدبى، ودفعهم لتقديم إبداعهم للمجتمع. راهنوا على الجيل القادم، بتبنى أطفال اليوم، فهم قوة مصر الناعمة.. الحقيقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.