رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شمس بدران يكشف مصير تسجيلات عبدالوهاب التى لا يعرفها أحد

بدران وعبد الوهاب
بدران وعبد الوهاب

الكثير من الصحف طالب شمس بدران على مدار أعوام مضت برد أشرطة عبد الوهاب، والتي يبلغ عددها 20 شريطًا، وفي مذكرات شمس بدران التي دونها حمدي الحسيني وصدرت عن دار النخبة ذكر بدران حكاية الأشرطة، يقول شمس: "علاقتي بعبد الوهاب كانت محل نقاش وجدل دائمين في الأوساط الفنية أثناء وجودي في السلطة، هذا الجدل وصل إلى ذروته خلال وجودي في السجن، واستمر رغم هجرتي من مصر ورحيل عبد الوهاب عن الدنيا، ووصل الأمر بمن تناولوا هذا الموضوع إلى اتهامي بامتلاك استديو متكامل في منزلي للغناء، وأنني كنت أختطف عبد الوهاب وأجبره على تسجيل أغنيات خاصة لي ولأسرتي رغمًا عنه! الطريف أنه كثيرًا ما كان يتسبب في إثارة المشكلات بين والدي ووالدتي وأنا صغير، إذ كان الوالد من عشاق فنه.

لقد تعرفتُ على عبد الوهاب صدفة، فقد كان يشارك أم كلثوم في إحدى الاحتفالات الوطنية، بمناسبة عيد ثورة 23 يوليو بعد العدوان الثلاثي، وبعد انتهاء الحفل انتظر المشاركون مصافحة عبد الناصر والمشيرعامر، حينها لمحني عبد الوهاب وتعرف علي، وعلمت برغبته في مصافحة عبد الناصر من دون أن يفصح عن ذلك، فأخذته من يده وتوجهنا مباشرة نحو الرئيس وقدمته له، وتركته يتبادل معه أطراف الحديث، ثم انشغلت في باقي ترتيبات الحفل، وبعد مغادرة الرئيس بحث عني وشكرني بحرارة كأني أسديت له جميلًا كبيرًا، ثم تواعدنا على اللقاء مرة أخرى وتبادلنا أرقام الهاتف، بعد مضي شهر على هذا الموقف اتصل عبد الوهاب بمنزلي، وكرر الشكر، ودعاني لحضور إحدى حفلاته الغنائية، وبالفعل لبيت الدعوة.

في ختام الحفل أصر على أن نشرب القهوة معًا، تحدثنا قليلًا حول القضايا العامة، لمستُ في حديثه رهبة وتحفظًا شديدين، ثم دعوته لزيارتي بمنزلي، وقضينا وقتًا ممتعًا، دار الحديث حول الفن، ومشكلات الوسط الفني، حينها طلب مني أن تساوي الدولة في الاهتمام بالفنانين.

تدريجيا اقتربت أكثر وأكثر من عبد الوهاب، وتعمق إعجابي بشخصه وفنه، كما عرفت وللمرة الأولى أنه مثل الكثير من الفنانين الذين يشعرون بالرعب من السلطة ورجالها، كما أسر لي بعد ذلك بأنه كان يرتعد عندما يسمع اسم عبد الناصر أو أحد مساعديه، ثم أدركت فيما بعد أن هذه سمة غالبية الفنانين على مرِّ العصور، وأنهم يسعون إلى كسب السلطة القائمة اتقاءً لشرها، وتجنبا للصدام معها أو معاداتها.

على عكس ما يردده البعض أنني كنت أُجبر الرجل على الغناء لي في منزلي وبمفردي، فقد فوجئت في إحدى زياراته بأنه جلب العود معه، وبدأ يُسمعني آخر ألحانه، وهكذا تحولت جلساتنا من مجرد زيارات عادية إلى حفلات طرب وموسيقى، ولم يحدث على الإطلاق أن أجبرته على الغناء، فهل هذا يعقل؟ عبد الوهاب بطبعه كان غيورًا، بما أنه قاسى وعانى من أجل الوصول إلى مركز وموقع فريد في عالم الموسيقى، وظل حريصًا على أن يحافظ على وضعه، وكان يتابع ما تنشره الصحف من أخبار، وينشغل كثيرًا بكل ما ينشر، سواء عنه أو عن غيره من نجوم جيله.

كنت منذ أن عملت في مكتب المشير عامر وأنا مهتم بترتيب حفلات ثورة يوليو السنوية أو الحفلات التي تنظمها الشئون المعنوية في الجيش، فكنت محط اهتمام غالبية الفنانين، وكان معظمهم يسعى إلى التقرب مني اعتقادًا منه بأن ذلك يؤثر على ضمه أو استبعاده من تلك الحفلات التي كان يشارك فيها الرئيس عبد الناصر عادة، وغالبية رجال الدولة، وحقيقة الأمر غير ذلك، فقد كانت هناك لجنة متخصصة تتولى ترشيح الفنانين، وتتم مراجعة أسماء المشاركين فيها من جانب أجهزة المخابرات وأمن الرئاسة، لأنه ليس من اللائق أن يشارك فنان أو فنانة مشبوهة في مثل هذه الحفلات الرسمية، فالأمور الفنية البسيطة كانت تلقى اهتمامًا ومتابعة من الجهات المختصة.

أما بخصوص التسجيلات النادرة لم يكن مقصودًا أن أحصل على تسجيلات خاصة ونادرة من الفنان الكبير، بل إن الأمر كان وليد الصدفة البحتة، فعندما تكررت زيارة عبد الوهاب لمنزلي أسبوعيا تقريبا، حرص عبد الوهاب على أن يغني خلال تلك الزيارات، هنا عرضت عليه أن نسجل جانبًا منها لأتمكن فيما بعد من الاستمتاع بها إذا سافرت وفي أوقات الفراغ، فرحب فورا، وبدأ هو من تلقاء نفسه يبلغني بأنه يعمل على لحن جديد ويرغب في أن يستطلع رأيي فيه.

وهكذا تكررت التجارب والتسجيلات المتنوعة لأغان قديمة تخصه هو أو ألحان تخص مطربين آخرين، كما بدأتُ أقدم له بعض الأشعار التي تصلني من بعض الضباط أو أقاربهم وأعرضها عليه، فكان يستبعد غالبيتها ويلحن بعضها، لم أفكر لحظة في استثمار تلك التسجيلات النادرة بأي صورة من الصور، ولم يخطر ببالي يومًا أن أجعلها عملا تجاريا، كما لم يحدث أن ساومت الرجل على هذه الأشرطة، بل على العكس تمامًا، فقد حرصت على أن تظل التسجيلات مجرد ذكرى جميلة، تعيدني إلى أيام ولحظات نادرة قضيتها وأنا أستمع لصوت فنان عبقري.

كان عبد الوهاب يصطحب زوجته نهلة القدسي معه في بعض زياراته التي امتدت لسنوات، فهل كان عبد الوهاب يقبل أن يغني مكرهًا لشمس بدران أو غيره طوال سنوات عدة من دون أن يشكو أو يتألم، لم يتضرر عبد الوهاب من جلساتنا الأسبوعية، بل كان يأتي سعيدًا، كما كان دائمًا يجدد أغانيه من القديم إلى الجديد، ويظل يغرد طوال الليل محتضنًا عوده في نهاية كل أسبوع في إبداع وتألق منقطع النظير، وبعد أن يشعر بالتعب والرغبة في النوم أصطحبه بعد منتصف الليل في سيارتي، ولا أتركه إلا بعد أن أتأكد من دخوله إلى بيته.

لم أكرر علاقتي بعبد الوهاب مع أي مطرب أو مطربة أخرى، رغم غيرتهم من تلك الخصوصية التي تربطني به، حتى إن أم كلثوم أبلغت بعض أصدقائي بقلقها من هذه العلاقة، لكني لم أبال لأني لم أكن من المعجبين بها ولا بفنها، وتجنبتُ اللقاء معها أكثر من مرة.

أذكر أنني في إحدى المرات قابلتُ عبد الوهاب أثناء علاجه في باريس، وكان في حقيبتي أحد الأشرطة التي سجلناها معًا، وخلال اللقاء استمعنا لمحتواه، وأعادتنا الأغنية إلى الوراء لأكثر من عشرين عاما، وعندما تأكد من نقاوة الصوت في الشريط سألني ماذا ستفعل في هذه الأغاني فقلت له أحتفظ ببعضها لاستعادة الذكريات والاستمتاع بها في الغربة، فاقترح فكرة استثمار مضمونها الفني، وإعادة طرحها في الأسواق تجاريا عبر الشركة الفنية التي كان يملكها، وعدته بالبحث عنها ومحاولة تجميعها، لكن هذا لم يحدث، ليس عمدا، بل لأنني فشلت في العثور عليها، فقد كنت أنوي ردها لصاحبها لأنها لا تمثل بالنسبة لي أكثر من كونها جزءًا من ذكريات لمرحلة مثيرة من عمري.

ما مصير تلك الأشرطة؟ طبعًا هذا السؤال كثيرًا ما رددته الصحف في مصر، وبخاصة المهتمين بجمع تراث الراحل العظيم، لن يصدق البعض أن ظروف خروجي من مصر وما صاحبها من عجلة وقلاقل لم تتح لي فرصة جمع هذه الأشرطة.

الذي حدث أنني حملت معي بعضها إلى الخارج، ونظرًا إلى تنقلي من بلد إلى بلد ومن مسكن إلى مسكن كانت النتيجة ضياع غالبية هذه الأشرطة، والشريط الوحيد الذي تبقى بحوزتي حصل عليه أحد الصحفيين على سبيل الهدية، بعد أن أسدى لي جميلًا يتعلق بظهوري في برنامج تليفزيوني، لكن المؤلم أنني علمتُ من صديق مصري بعد ذلك أن هذا الشخص عرض بيع هذا الشريط النادر لأحد الأثرياء العرب مقابل 5 ملايين جنيه مصري، كنت وما زلت حزينًا على ضياع هذه الثروة الفنية النادرة، التي أدرك قيمتها والتي لا تقدر بثمن لأسطورة الفن والموسيقى العربية محمد عبد الوهاب.