رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وجوه قديمة.. وسياسات جديدة



النموذج الأمريكى، الذى قام على شعارات الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، يكاد ينهار داخل الولايات المتحدة، بلد المنشأ، ووسط حالة الانقسام المجتمعى غير المسبوقة، لم يعد بإمكان الوجوه القديمة التى سيستعين بها «الرئيس الأمريكى المحتمل» أن تعيد إنتاج السياسات القديمة، التى تسببت فى كوارث وقادت، بشكل أو بآخر، إلى الوضع الراهن.
على مسرح كبير فى مدينة ويلمينجتون بولاية ديلاوير، أعلن جو بايدن، ٧٨ سنة، عن الأسماء الكبيرة التى اختارها لمرافقته لدى انتقاله إلى البيت الأبيض، فى ٢٠ يناير المقبل: اختار أنتونى بلينكن وزيرًا لخارجيته، ليندا توماس جرينفيلد، سفيرته لدى الأمم المتحدة، أليخاندرو مايوركاس، رئيسًا للأمن الداخلى، جانيت يلين، وزيرة للخزانة، جون كيرى مبعوثه الخاص لشئون المناخ، وسيكون جيك سوليفان مستشاره للأمن القومى.
إذا تم تأكيد تعيين هؤلاء من جانب مجلس الشيوخ، فإن الذين سيمثلون ركائز سياسة بايدن الخارجية سيحملون على أكتافهم إرث إدارة أوباما، التى عجزت عن تجاوز المشكلات الداخلية، وما ترتب على أزمة ٢٠٠٨ المالية العالمية من عواقِـب اقتصادية، ووضعت الولايات المتحدة على حافة الانهيار المالى، وأضرت بمصالحها فى منطقة الشرق الأوسط، وتعاملت بارتباك مع الملف النووى الإيرانى، ولم تحقق أى تقدم فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وكان ما يوصف بالربيع العربى هو كارتها الأخير، أو محاولتها الأخيرة، لإنهاء صراعات المنطقة، والحفاظ على مصالحها وضمان أمن إسرائيل، عبر إنتاج جغرافيا سياسية جديدة، مختلفة عن تلك التى أنتجتها معاهدة سايكس- بيكو، تقوم على إعادة ترسيم المنطقة طائفيًا، وتقسيمها بين تركيا وإيران.
غير أنتونى بلينكن، الذى عمل مع بايدن لنحو ٢٠ سنة، وسيشغل أكبر منصب دبلوماسى فى البلاد، تُعد ليندا توماس جرينفيلد، ذات الأصول الإفريقية، واحدة من أكثر الدبلوماسيات السود شهرة فى الولايات المتحدة، فقد عملت مساعدة لوزير الخارجية لشئون إفريقيا فى إدارة أوباما، وبعد مغادرتها الوزارة سنة ٢٠١٧، انضمت إلى شركة «أولبرايت ستون بريدج» المملوكة لمعلمتها الأولى، مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية بيل كلينتون، كما كان جيك سوليفان مساعدًا لهيلارى كلينتون، ولعب دورًا رئيسيًا فى التفاوض على الاتفاق النووى الإيرانى، سنة ٢٠٠٥ وشغل منصب مستشار الأمن القومى لبايدن عندما كان نائبًا للرئيس.
لا يحتاج تعيين سوليفان، ٤٤ سنة، موافقة مجلس الشيوخ، وسيكون أصغر من تولوا هذا المنصب منذ عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، ويعد مستشار الأمن القومى للرئيس أحد أهم وأقوى الوظائف فى البيت الأبيض، حيث يقود طاقمًا من عشرات الخبراء لوضع وتطوير السياسة الخارجية والعسكرية للولايات المتحدة، وما قد يطمئن أن لديه مواقف واضحة من دور قطر، وسبق أن تحدث باستفاضة فى مؤتمر عقدته «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية»، سنة ٢٠١٧، عن امتلاك واشنطن أدلة على تورط قطر فى تمويل ودعم التنظيمات الإرهابية.
باختيارها مديرة للمخابرات الوطنية، ستكون أفريل هينز أول امرأة تشرف على كل وكالات المخابرات الأمريكية، وكانت نائبة مدير المخابرات المركزية، وصارت سنة ٢٠١٧ مستشارة لشركة «ويست إكسيك» للاستشارات العسكرية، التى أسسها بلينكن وميشيل فلورنوى، وزيرة الدفاع المحتملة، ومع أن هذه الشركة تحيط قائمة عملائها بسياج من السرية، إلا أن موقع «بروسبكت» نشر قائمة بأسماء عدد من العملاء كان أبرزهم شركة «ويندوارد» الإسرائيلية للتكنولوجيا العسكرية.
وزيرة الدفاع المحتملة، ميشيل فلورنوى، لم يكشف بايدن عن اسمها بعد، لكن كل التوقعات تشير إلى أنها الأقرب لتولى ذلك المنصب، وهى أيضًا بين من يحملون إرث إدارة أوباما، إذ كانت تشغل منصب وكيل وزارة الدفاع، فى تلك الإدارة، التى لم تتمكن من إنهاء الحروب الخارجية باهظة التكاليف.
كل هذه الوجوه، كما هو واضح، برزت فى إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، وتحمل إرثها، كما أشرنا، على أكتافها. وكان لافتًا أن يستبق بايدن إعادتها إلى الواجهة، بتأكيده أن إدارته المرتقبة لن تكون «ولاية ثالثة لأوباما»، وأن يرجع ذلك، فى المقابلة الأولى له مع شبكة «إن بى سى» بعد انتخابه، إلى أنه يواجه «عالمًا مختلفًا تمامًا». وهو تصور صائب طبعًا، ليس فقط بسبب ما طرحناه فى السطور السابقة، ولكن أيضًا لأن تحقيق أى تغييرات كبيرة، سيكون شديد الصعوبة فى ظل سيطرة «الجمهوريين» على مجلس الشيوخ، ووجود عدد من «الديمقراطيين» المحافظين.
الرئيس المحتمل، باختصار، سيمثل، ككل سابقيه، السياسة الأمريكية، لكنه لن يصنعها، وفى ظل الانقسامات القائمة، غير المسبوقة، على الساحة الداخلية، فإنه لن يتمكن من تنفيذ غالبية طموحاته، وعوده أو تعهداته، وغالبًا، لن تلقى دعواته المستمرة لتوحيد الصفوف آذانًا صاغية، وليس من المتوقع أن يتخلى «الجمهوريون» عن التعامل معه بعدائية، بسبب قبولهم العلنى، أو الضمنى، لاتهامات ترامب له، وللديمقراطيين إجمالًا، بسرقة الانتخابات.