رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مختار.. الفن والوطنية المصرية



تهِلّ علينا هذه الأيام مئوية فكرة تمثال نهضة مصر للفنان المبدع «محمود مختار»، إذ ارتبطت فكرة التمثال بثورة ١٩١٩، حيث بدأ مختار فى التفكير الأولى لتصميم رمز يُعبّر عن الثورة ونهضة مصر المُرتقبَة، وبالفعل وضع مختار هذا التصميم فى عام ١٩٢٠، وهو فى باريس، لكن مع نجاح الثورة وعودة مختار إلى مصر، أعاد مختار النظر فى تصميم التمثال ليُعَبر عن تطلعات المجتمع المصرى آنذاك نحو نهضة مصر.
تداعت إلىّ هذه الأفكار عندما دعانى الشاعر الكبير «زين العابدين فؤاد» إلى صالونه الافتراضى الذى خصص جلسة فيه للاحتفاء بهذه الذكرى الجليلة: «مئوية فكرة تمثال نهضة مصر»، وكان على رأس المشاركين الدكتور «عماد أبوغازى»، وهو اختيار جيد ليس فقط لكونه أستاذًا للتاريخ والوثائق، ولا حتى وزيرًا أسبق للثقافة، لكنه أيضًا حفيدًا لمختار؛ من هنا عرض عماد نماذج نادرة لأعمال مختار، وتجليات تمثال نهضة مصر على الفنون المصرية حتى الشعبى منها. وقدم الدكتور «ياسر منجى»، أستاذ الفنون الجميلة، عرضًا رائعًا وتحليلًا فنيًا مختلفًا لتمثال نهضة مصر ودلالة أبوالهول فى التمثال، والرمز لمصر بالفلاحة التى تنظر للأمام وتزيح طرحتها لتستطيع رؤية المستقبل، كما عرج إلى أمر مهم آخر، ربما لا يمت بصلةٍ مباشرة إلى مختار، ولكن إلى عصر مختار وسنوات العشرينيات ونمو القومية المصرية، والنزعة الفرعونية، والتى تم التعبير عنها بجلاء فى ضريح سعد زغلول؛ إذ لم يأخذ الشكل التقليدى الإسلامى، وإنما اتخذ الشكل الفرعونى، فى سابقة تستحق النظر والدراسة، وربما لم تتكرر بعده، وهى دلالة على البُعد الفرعونى فى القومية المصرية آنذاك. وتذكرتُ الدراسة المهمة التى نشرها بالإنجليزية السفير والمفكر السودانى «جمال محمد أحمد» عن الجذور الفكرية للقومية المصرية؛ حيث لاحظ أن معظم رموز القومية المصرية من جيل شباب ثورة ١٩ كانوا من الجيل الذى وُلد فى فترة العقد الأول للاحتلال البريطانى لمصر عام ١٨٨٢، هذا الجيل الذى عانى مرارة ومهانة الاحتلال، وهو الجيل الشاب الذى قاد الثورة على الأرض فى مصر عام ١٩١٩، وهو الجيل الذى شكَّل ملامح الهوية المصرية سواء فى المجال السياسى: «مصطفى النحاس» على سبيل المثال، أو الفكر والأدب: «طه حسين» و«محمد حسين هيكل»، أو فى الفن وأبرزهم «محمود مختار» الذى ولد فى عام ١٨٩٥.. هكذا كان هذا الجيل على موعد مع القدر مع ثورة ١٩، ومع نهضة مصر كما تصورها هؤلاء. وهنا تذكرتُ أيضًا عادة حميدة رأيتها فى الغرب، وهى القيام برحلات مدرسية إلى المتاحف القومية، والتماثيل الكبرى المُجَسدة للنزعة الوطنية، وذلك من أجل تأكيد الهُوية فى نفوس الناشئة، ولعل ذلك يكون أيضًا خير وقاية من التطرف والإرهاب، وتساءلت عن سر غياب ذلك فى مدارسنا، بل وجامعاتنا؟ كم من الشباب دون الثلاثين يعلم أصلًا بوجود متحف محمود مختار؟ هذا المتحف الرائع الموجود قرب كوبرى الجلاء بين نادى القاهرة وحديقة الحرية، متى نصطحب طلاب المدارس إلى ضريح سعد غلول وجامع عبدالناصر، لنقص عليهم أحسن القصص فى تاريخ الوطنية المصرية؟ من هنا نبدأ إذا أردنا مواجهة حقيقية للتطرف وضعف الانتماء.