رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ من العداء لمصر فى قلب حوض النيل




عرضنا خلال الأسابيع الماضية ثلاثة مقالات ضمن سلسلة «مصر وتهديدات دول الأطراف»، تعلقت بالتهديدات التركية، المقال الأول رحلتهم من الإستبس للأناضول، وأطماعهم الإقليمية.. الثانى عقدة الأتراك التاريخية من الجيش المصرى.. والثالث حول الجيش المصرى ومعارك تأديب الجيش التركى.. ننتقل إلى الدولة الطرفية الثانية «إثيوبيا» ومخاطرها على أمن مصر القومى، ونبدأ باستعراض تاريخ طويل من كراهية الأحباش لأى تواصل مصرى مع دول منابع النيل.
كل حكام مصر الذين امتلكوا رؤية استراتيجية لأبعاد أمنها القومى منذ فجر التاريخ، اتفقوا على تقدير أهمية النيل، واعتبروه صاحب الأولوية المطلقة بين كل العناصر المؤثرة على الحياة فى مصر.. زوسر وسنفرو وتحتمس الأول والثانى وحتشبسوت أوفدوا بعثات استكشافية إلى منابع النيل.. تحالفوا مع بلاد بونت «إريتريا والصومال»، ولم تنقطع بعثات الاستكشاف للمنطقة طوال عصر البطالمة والرومان والمماليك.. محمد على كان أول من أعدّ «تقدير موقف شاملًا» لعلاقة منطقة منابع النيل بأمننا القومى، خلاصته أن «من يسيطر على هذه المنطقة يتحكم فى مصر»، وهى نفس الخلاصة التى توصل إليها المؤرخ اليونانى الشهير هيرودوت «مصر هبة النيل» الذى عاش فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ولقب بـ«أبوالتاريخ».
محمد على أوفد حملة عسكرية بقيادة نجله «إسماعيل» لبلوغ منابع النيل، لكنه استُشهد بعد ضم «سنار» و«كردفان»، ورغم ذلك تم تعيين قائد بديل، واستكملت الحملة فتح السودان، ثم ضمت البلاد المطلة على بحيرة فيكتوريا، وسيطرت على ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندى، وأمّنت مضيق باب المندب وخليج عدن، وحصلت على اعتراف إنجلترا بتلك السيطرة، ثم نفذت إلى بوجوس وهرر وتاجورة.. محمد على أعد خطة لإخضاع الحبشة، بهدف استكمال سيطرته على منطقة منابع النيل، لكنه رحل قبل ذلك.
مصر بزغت كقوة عسكرية كبرى فى إفريقيا مع غروب شمس الإمبراطورية العثمانية، الخديو إسماعيل سعى لتحقيق حلم إنشاء إمبراطورية مصرية كبرى فى إفريقيا، تسيطر على القرن الإفريقى ومنابع النيل فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وهى المناطق التى كان معظمها خاضعًا للعثمانيين، لذلك عمل على إقامة جيش مصرى كبير بقيادة ضباط أوروبيين وأمريكيين، من المنتمين لولايات الجنوب الأمريكى الذين غادروا بلادهم بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية.. إسماعيل لم يعِ جيدًا دروس التاريخ، التى أكدت أن قدرات الجيش المصرى قد تدهورت عندما اعتمد على «المماليك»، لكنها تحولت إلى دولة إمبراطورية كبرى، ودقت أبواب إسطنبول عندما شكلت جيشًا من أبنائها «الفلاحين».
قوة مصرية قوامها ١٢٠٠ جندى بقيادة الضابط السويسرى «مونزينجر» توجهت من ميناء كسلا واحتلت كيلين الحبشية فى ديسمبر ١٨٧٤، لكنها انسحبت تحت ضغط احتجاجات إثيوبيا، تاركة خلفها حامية لتأمين بعثة كاثوليكية كانت تتواجد فى تلك المنطقة منذ أكثر من ٤٠ عامًا، لكن الهدف هو إعطاء طابع الحماية.. خلال أكتوبر ١٨٧٥ احتلت قوة مصرية بقيادة الكولونيل الدنماركى «سورن آريندوب» منطقة «جيندا»، وأوفد مبعوثًا إلى ملك إثيوبيا يوحنا السادس يطالبه بترسيم الحدود.. الملك الإثيوبى اعتبر الرسالة بمثابة تهديد، فقام بسجن الرسول وأعلن الحرب على مصر.
قبائل «الدناكل» نصبت كمينًا بالقرب من «العدوة»، لتشكيلات عسكرية مصرية تبلغ أكثر من ألفى جندى، بقيادة «مونزينجر» باشا قادمة من «كسلا» فى طريقها لتعزيز القوة المصرية، لقى فيه قائدها وكل القوة التى كان يقودها تقريبًا حتفهم فى ٧ نوفمبر ١٨٧٥.. وقد تبين أن بريطانيا القوة الأوروبية المنافسة لمصر بالمنطقة، كانت قد زودت القوات الإثيوبية بالبنادق لأول مرة، ما شكّل مفاجأة عسكرية للقوة المصرية فى «جوندت»، بقيادة الكولونيل «آريندوب» وضباط أوروبيين وأمريكيين فى قيادة التشكيلات.
هجوم الإثيوبيين على القوات المصرية فى «جوندت» ١٤ نوفمبر انتهى فى ١٦ نوفمبر بعد أن لقى «آريندوب» حتفه فى المعركة، ولحق به ضباطه، ومنهم أراكل نوبار ابن شقيق رئيس وزراء مصر حينذاك نوبار باشا، ولم ينج منهم سوى عدد قليل.
الجيش المصرى حشد حملة عسكرية أكبر قوامها ٢٠ ألف جندى، بقيادة محمد راتب باشا والجنرال الأمريكى وليام لورينج، للرد على معركة «جوندت».. اتجهوا إلى إثيوبيا عام ١٨٧٦، وتقدموا إلى «جورا» وأقاموا حامية فيها.
راتب باشا كان يريد المبادرة بالهجوم على الإثيوبيين، لكن الجنرال لورينج رفض، وقرر التحصن فى المعسكر اعتمادًا على أنه كان مؤمنًا بالتلال المحيطة، لكن القوات الإثيوبية التى حشدت قوة بالغة الضخامة، يتجاوز عددها ٢٠٠ ألف مقاتل، نجحت فى احتلالها، وفتحت نيران البنادق والمدافع بكثافة عالية على القوات المصرية أثناء وجودها داخل المعسكر، حتى تتجنب وقوع اشتباك معها.. إسماعيل باشا كامل أحد قادة الجيش المصرى حاول إعادة تجميع الجيش ولكن دون جدوى، لأن القوات الإثيوبية هاجمت «جورا» أيضًا فى ٨ و٩ مارس.. رشيد باشا وعثمان بك نجيب قادا هجومًا مضادًا ضد الإثيوبيين فى ١٠ مارس، لكن الإثيوبيين صدوه وألحقوا بالقوات المهاجمة خسائر كبيرة، واستولوا على الكثير من المعدات.. مسيو سارزاك القنصل الفرنسى فى مصوع وصل إلى ساحة المعركة فى ١٢ مارس، حيث اصطحب الجرحى المصريين عائدًا بهم إلى مصوع.
الحملات العسكرية المصرية تمت فى وقت لم تكن فيها كيانات سياسية بمنطقة منابع النيل، حتى يمكن الادعاء بأن مصر كانت تهدر استقلالهم، ولكن كانت هناك مجتمعات قبلية بدائية، تخضع للاستغلال من جانب البعثات التبشيرية الأوروبية خاصة البريطانية والفرنسية والإيطالية، التى كانت تخشى الدور التنويرى لمصر بتلك المنطقة.. ولكن للأسف، فقد زرعت هذه الحملات رغم أهدافها غير الاستعمارية، بذور العداء لدى الشعب الإثيوبى تجاه مصر.. تلك حقيقة ينبغى أن يعقلها دعاة الحرب حاليًا.
النظام الإثيوبى ظلت تحكمه لعقود عديدة أقلية من قبائل التيجرانية المتمركزة بالشمال، التى تحمل أكبر رصيد من الكراهية التاريخية لمصر.. وحتى بعد أن انتهى حكمهم عام ٢٠١٨ لصالح قبيلة «الأورومو»، ظلت عناصرهم تشكل قاعدة واسعة من الكارهين فى مواقع المسئولية وصنع القرار داخل مؤسسات الدولة، تعرقل أى توافق ثنائى بين الدولتين، وتسعى لإعاقة تنفيذ «سد النهضة»، حتى لا يُحسب الاحتفال بانتهاء تشييده، وهو الذى بدأ فى عهدهم، إنجازًا مهمًا لنظام حكم «أبى أحمد».. وللأسف أيضًا فإن محاولات عرقلة السد يحسبها البعض نتيجة لتحريض القاهرة، رغم كل ما يكنه القائمون بها من كراهية وعداء لمصر.
مصر فى كتب التاريخ التى يتم تدريسها لتلاميذ المدارس الإثيوبية هى العدو المركزى.. المدافع التى غنموها فى معركة «جوندت»، إبان حملة الخديو إسماعيل، وضعوها تذكارًا بميدان «أكسيوم» عاصمتهم التاريخية.. وأطلقوا اسم «جوندت» على أرفع وسام عسكرى.
الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية خرجت عن رعاية الكنيسة المصرية منذ ١٩٥٩.. الرهبان الأحباش احتلوا جانبًا من دير السلطان التابع للكنيسة المصرية بالقدس، وعندما أعلن السادات عزمه مد مياه النيل إلى سيناء ١٩٧٩ لاستصلاح ٣٥ ألف فدان، تقدموا بشكوى لمنظمة الوحدة الإفريقية.. و«مبارك» تعرّض لمحاولة اغتيال بأديس أبابا يونيو ١٩٩٥.. الثمار المُرة للكراهية لا تعد ولا تحصى، لكن جميعها أصبح يتمركز حول مشروع «سد النهضة».
إثيوبيا تبرر مواقفها العدائية بأن مصر ترفض تنمية المجتمعات الإفريقية، رغم أنها خلال التسعينيات أجرت دراسة مشتركة مع إثيوبيا والسودان لإقامة مشروع مشترك للطاقة الكهرومائية، واقترحت موقعين: الأول قرب الموقع الحالى لسد النهضة، والآخر بمنطقة دال شمال السودان، ولكنها فضّلت الموقع الأول، وبدأت مجموعة «سكوت ويلسون» الفرنسية فى دراسة المشروع بتمويل من البنك الإفريقى، لكن إثيوبيا أوقفته بضغوط خارجية، وبدأت عام ٢٠٠٠ فى إعداد مخططها منفردة.
إثيوبيا تروّج أن مصر تطالب بحقوق تاريخية تستند إلى اتفاقيات عقدتها الدول الاستعمارية قبل الاستقلال، رغم أن حقوقنا تستند إلى ما استقر عليه المجتمع الدولى بشأن توارث المعاهدات، الذى قنّنته قواعد هلسنكى ١٩٦٦ بشأن الأنهار، واتفاقيتا فيينا ١٩٧٨، واﻷﻣﻢ اﻟﻤﺘﺤﺪة ١٩٩٧ بشأن اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻤﺠﺎرى اﻟﻤﺎﺋﻴﺔ اﻟﺪوﻟﻴﺔ، واتفاقية ١٩٢٩ التى وقعتها دول حوض النيل مع مصر وليس مع إنجلترا.
كل تراكمات كراهية الأحباش التاريخية لمصر تبلورت حول «سد النهضة»، حتى أصبح هذا المشروع يوصف بأنه «مشروع عدائى»، فى فكرته وتصميمه وأهدافه.. كيف تعاملت مصر مع الأزمة؟.. موعدنا الجمعة المقبل إن شاء الله.