رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لقطات من كتاب «يا صاحب المدد» سيرة شاعر ومسيرة وطن

خيري حسن
خيري حسن

جاء كتاب "يا صا حب المدد " امتدادا لصفحات كانت تبدو لنا مجهولة قبل أن يعمل عليها الكاتب الصحفي خيري حسن عبر كتابه «أرواح على الهامش» الذي أشار فيه إلى الشاعر زكي عمر، بل يمكن القول أن كتابه أرواح على الهامش كان بمثابة استعادة لمنجزه في الشعر الغنائي إلى الضوء مرة أخرى، ونجح الكاتب في أن يثبت عبر كتابته الأولى عن زكي عمر عبر كتاب أرواح على الهامش أحقيته في أغنية مدد التي دارات حوله معركته الصحفية وتبعها بكتابه ياصاحب المدد الذي بين أيدينا الآن.

وخص الكاتب الصحفي خيري حسن «الدستور» ببعض من فقرات الكتاب

(القرية ـ عام 1948 )
ومرت الأيام، بكل أحزانها، وآلامها، وفقرها حتى كبر زكي وصار عمره فوق عشر سنوات. وبدأ يلعب في شوارع القرية تحت ليلها المعتم الحزين. يسمع أحاديث الفلاحين عن القتلة المجرمين الذين يذبحون الأهالى في فلسطين، ويدمرون منازلهم، ويحرقون زيتونهم، ويقتلون أطفالهم. ومن هنا.. من دروب القرية البائسة، بدأ يُولد بداخله شاعر، يفيض بالقلق، ويرفض الظلم، ويحب الخير، والعدل، والحرية. ومرت السنوات وهو ينمو ويلهو مع الأطفال في الشوارع والحوارى. ويسهر الليالى، يرسم تحت ضوء القمر، وردة، ونخلة، وشجرة، وزهرة ياسمين. ويسمع الحواديت والحكايات (والتعلب لما فات).. والناس بجواره تواصل أحاديثها، وتلضم الحكاية وراء الحكاية، لتظل حكاية الحكاية، وأصل كل حكاية في الوطن العربي الكبير في ذلك العام ـ وكل عام ـ منذ عام 1948 ـ هي حكاية فلسطين، وما يحكيه الناس عن مأساة دير ياسين. وغيرها من المذابح والمجازر والمآسي والمحن. وعندما يعود زكي للبيت في ظلام الليل الثقيل، الكئيب، الحزين؛ يقرأ سور الفاتحة، والكافرون، والبلد، والعصر، والنصر. ويفرح عندما تفرح أمه بذلك. وهي تقول: آمين.. يا ولدي.. آمين.



(كفر الأعجر ـ 1967)
فى هذه الأيام التفت القرية حول أجهزة الترانزستور التي زاد عددها في البيوت. وارتفعت أصواتها في الشوارع والحواري. الكل في دهشة، وقلق، وتوجس، وحيرة، وهم يسمعون البيانات الأولى لإذاعة صوت العرب التي كانت (أي البيانات) تُعلن عن إسقاطنا العشرات من طائرات العدو، وأن صواريخ القاهر، والظافر، قد أوشكت على تدمير تل أبيب، وإلقائها في مياه البحر! زكي عمر الذي كان عمره قد وصل إلى الثلاثين عامًا وعاش مثل غيره مع الفرحة ساعات. وشعر بالفخر ساعات؛ لكنه بعد ساعات وساعات، شعر بالقهر والخوف والإحباط. وبعد ساعات أخرى أغلق الراديو القديم الذي اشتراه من أول راتب حصل عليه، ودخل إلى حجرة أمه فوجدها تهز رأسها وتقول: "انهزمنا يا زكي"؟! هز رأسه ولم يرد! ومن أين يأتيه الرد؟ وبماذا يرد! وهو الذي عاش سنوات الحلم والأمل. سنوات القوة والنصر. سنوات العزة والكرامة، لكنه فى لمحة عين انكسر الحلم، وتوارى الأمل، وانحسر المد العربي القومي الاشتراكي. وجاء الذل بعد الفخر، وخيم الحزن بعد الفرح. وصمتت صواريخ القاهر والظافر على أبواب القاهرة، فلم تعد تتحرك أو تنطق أو تنطلق! بعد عدة سنوات ذكر الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق في شهادته (مذكرات حرب أكتوبرـ الصادرة 1980 ـ طبعة الجزائر) أنه "كانت هناك عدة صواريخ منها ترقد في المخازن، وكانت عيوبها كثيرة، وفوائدها قليلة، ولكنني قررت أن أستفيد منهما بقدر ما تسمح به خصائصهما فى حرب أكتوبر".. وقد كان !

(المنصورة ـ 1968 )
مدد.. مدد.. مدد
شيدي حيلك يا بلد
بكرة الوليد جاي من بعيد
راكب خيول فجره الجديد
يا بلدنا قومي احضنيه
دا معاه بشاير ألف عيد
لكن متى كُتبت هذه الكلمات التي اشتهر بها زكي عمر قبل أن يغنيها الفنان محمد نوح؟ كُتبت بعد الهزيمة...فى منزل زميله الشاعر محمد يوسف، أو ظهرت حروفها الأولى وهو جالس معه! وعن ذلك اليوم يحدثتا الدكتور مصطفي يوسف، شقيق الشاعر الراحل محمد يوسف قائلًا:"كلمات مدد.. مدد.. صاحبها الحقيقي هو الشاعر زكي عمر، وليس أي شاعر آخر. ولقد كتبها في بيتنا القديم 6 حارة سلطان، من شارع سندوب، مدينة المنصورة. وكان وقتها جالسًا مع أخي الشاعر محمد يوسف. وبيتنا يقع بجوار مولد الشيخ حسانين. يومها تفاءل أبي بهذه الصحبة. وقال ـ بعفوية شديدة ـ ( والمولد عمران) مدد يا شيخ حسانين؛ فإلتقطها زكي بحسه الإبداعى، وهتف وهو جالس بيننا" مدد.. مدد". ثم استكمال كتابة الكلمات التى خرجت من هذا المكان في ذلك الزمان لتهتف بها الجماهير. وبعدها انطلقت في أجواء، وهواء، وسماء محافظة الدقهلية وعلى المصاطب وفي المنادر والعزب والكفور والبنادر.. وانضمت بصدقها وثوريتها إلى أشعاره النضالية التي كانت تُغنى على مسرح المنصورة القومي.


(الزنزانة ـ الليلة الأولى)
جلس زكي عمر مع نفسه يسترجع طفولته وحياته وأحلامه وأمه وزوجته، وبناته، ومسرح أوبرا المنصورة والجماهير الحاشدة التى كانت تهتف خلفه. وظل كذلك حتى نام في زنزانته ليلته الأولى قبل ترحيله إلى سجن القناطر.عن هذه الفترة يقول محمد الهادي من قيادات الصف الثاني بالحركة الطلابية:"سجن القلعة لم يكن سجنًا كباقي السجون، فهو مكان للتعذيب، وانتزاع الاعترافات. ولقد تم ترحيلنا منه على دفعات إلى سجن القناطر. وكان معنا في عربة الترحيلات الشاعر زكي عمر، الذي لم أكن أعرفه حتى تم التسكين في سجن القناطر، الذي قضى فيه معنا 5 شهور قبل الإفراج عنه"!

(مدينة المنصورة ـ 1972)
عاشت مدينة المنصورة وقراها أجواء حرب الاستنزاف منذ انطلاقها بكل عزم، وبطولة، ومقاومة. وكان الأهالي في الشوارع وعلى أسطح البيوت وتحت ظلال الشجر في الحقول، يتابعون معارك الطيران في السماء لحظة بلحظة،لأن قاعدة المنصورة الجوية كانت هدفًا مستمرًا لهجمات العدو.. وكانت هذه المتابعة تتم وتُرى بالعين المجردة. ووسط هذه الأجواء تفاعل زكي عمر وبدأ يواصل كتابة أشعاره التي تدعو للمقاومة، والمواجهة، والتصدي، والصمود والكفاح. وتحركت معه فرقة مسرح المنصورة لتشارك في دعم المعركة. هذا التفاعل والتجاوب السريع جعل زكي يسهر الليل في المنصورة تحت أضواء المسرح يقاوم، ويدعو للمقاومة. وبالنهار يعود لقريته وسط الناس، حيث لا ينام؛ إلا بين أحضان بيوتها، ولا يسمع إلا أصوت عصافيرها، ولا يرى إلا مزارعها وفلاحيها. وعن هذه المرحلة قال لصحيفة المساء فى ( 7 نوفمبرـ 1973): "أنا زي السمك أموت لو خرجت من كفر الأعجر. لست طبعًا أقصد كفر الأعجر بمكانها الجغرافي، لكن أعني كفر الأعجر بمحيطها الإنساني.. الفلاحين.. والعمال.. وبالتحديد عمال التراحيل.. والذكريات معهم. لقد رفضت كل إغراءات الذهاب والبقاء في القاهرة. لماذا رفضت؟ لأن المدينة ضدي.. وأنا ضد المدينة، فهي في اعتقادي تقتل فى الإنسان إنسانيته"!


(جامعة القاهرة ـ 1972 )
مرت الأيام وهو يتحرك في كل قرية ومدينة وشارع وحارة يهتف: مدد.. مدد.. شدي حيلك يا بلد، وتهتف خلفه الجماهير الحاشدة. وبجانب ذلك كان يلبي الدعوات التي توجه له للسفر للقاهرة خاصة في الجامعة للوقوف بين طلابها ومعه الفنان محمد نوح ـ أحيانًا ـ يهتفان "مدد.. مدد" كما حدث بمدرجات كلية آداب جامعة القاهرة في هذه الفترة الحرجة والملتهبة، والثورية، والتي نشطت فيها الحركة الطلابية بهدف شحن الجماهير، للضغط على القيادة السياسية، من أجل بدء القتال. وبسبب هذا الضغط الجماهيري النخبوي، قررت القيادة السياسية إلقاء القبض على معظم زعماء ذلك الحراك الضاغط بهتافاته، ومؤتمراته، وندواته، وأشعاره. والزج بهم في المعتقلات. وكان من بين هؤلاء زكي عمر الذي أُعتقل في أواخر عام 72 وهو يهتف باسم البلد، والأمل، ومن أجل تحرير الأرض، والوطن.. حيث كان يدرك أن النصر محتاج للجلد.


وبعدما انطلقت (مدد.. الأغنية ـ والمسرحية) في سماء القاهرة لمدة 4 شهور متتالية. أصبح زكي عمر من النجوم الساطعة في سماء المسرح والشعر معًا حيث لُقب وقتها بشاعر نصر أكتوبر. وهو الذي كان يعرف قبل ذلك بـ "ابن الريف". عن تلك الأيام يقول فى مذكراته:"فجأة استيقظت ذات صباح، لأجد نفسي وقد اصبحت نجمًا.. رجال أعمال القطاع الخاص يطلبونني، والمطربات من الدرجة الثالثة وأدناها يطاردوننى.. (مش معقول، مش ممكن..) بصراحة خفت، وتصورات أن هناك مؤامرة ضدي، وأن هناك من يعمل على أن انسي عنوانى، مثلما فعلوا مع آخرين قبلي"!
( القاهرة ـ 1973 )
أما الكتابات النقدية عن عرض (مدد.. شدي حيلك يا بلد) فقد جاءت بدايتها مع حمدي الجابري ـ أستاذ بمعهد الفنون المسرحية ـ الذي نشر في صحيفة الجمهورية بتاريخ 25 أكتوبر 1973 قائلًا: "استطاع المسرح الحديث تقديم عرض (مدد) في ثلاثة أيام لتكون أروع تعبير مسرحي عن الحرب" ثم يذكر في مقاله كلمات:"( مدد.. مدد مدد شدى حيلك يا بلد إن كان في أرضك مات شهيد فيه ألف غيره بيتولد)" ويؤكد أنها للشاعر زكي عمر وليس لأي شاعر آخر.. ويكمل قائلًا: "وتستمر الأغاني لتستحضر التاريخ الإسلامي وأمجاده فتقول عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد: (بكرة الوليد جاي من بعيد راكب خيوال فجره الجديد) ثم يعلق قائلاُ: "ولقد استطاع المخرج عبد الغفار عودة استغلال إمكانيات شعر شاعر المنصورة زكي عمر ـ لاحظ لم يذكر الأبنودي ولا سيد حجاب ولا إبراهيم رضوان ولا غيرهم ـ مع إمكانيات الممثلين في هذا العمل". وفى صحيفة الجمهورية كتبت فريدة النقاش ـ بتاريخ 27 أكتوبر1973 ـ قائلة: ("إن كان في أرضك مات شهيد فيه ألف غيره بيتولد") ثم تؤكد أن "هذه الكلمات في العرض الشعري الذي كتبه بسرعة شاعر العامية زكي عمر وليس أي شاعر آخر"!
( المنصورة ـ 1987 )
فى نهاية الرحلة.. مات زكي عمر (الإنسان).. مات كما ماتت أمه "ناقص" عُمر
أما زكي عمر (الشاعر) فهو يعيش وسوف ـ يعيش ـ في ذاكرة الوطن "ألف" عُمر.