رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ترتيب جديد لأوراق الشمال السورى



طوال نهار وساعات الثلاثاء الماضى، شهد الشمال السورى ثلاث عمليات نوعية لم تتكشف بعد مدى ارتباطها ببعضها البعض، سوى أن «قوات سوريا الديمقراطية» هى التى تقف بشكل رئيسى وراء تنفيذها المتزامن فى يوم واحد، مما يثير العديد من التساؤلات التى تفتح باب مستقبل ترتيبات تلك الساحة المثقلة بالتعقيدات. أولى الإشارات المادية التى يمكن تلمسها هى المستهدفون بتلك الهجمات والكمائن الذين يحسبون على موالاة تركيا بصورة معلنة، باعتبارهم شركاء للعمليات العسكرية التى نفذها الجيش التركى على أراضى الشمال السورى، لثلاث مرات متتالية بين العامين ٢٠١٦ و٢٠١٩، على إثرها سقطت مساحات واسعة من المناطق الحدودية المتاخمة، وغيرها بعمق الشمال السورى تحت سطوة احتلال الجيش التركى.
شهد ليل الإثنين الماضى، محاولة تسلل لـ«٣٠ مقاتلًا» من الفصائل الموالية لتركيا فى «ريف الرقة» الشمالى، وبالتحديد كان المستهدف الدخول إلى قرية «معلق» التى تقع على أطراف مدينة «عين عيسى»، بعد أن جرى تهجير قسرى لسكانها من الأكراد السوريين. عناصر استخبارات كردية تابعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» تمكنت من الحصول مسبقًا على معلومات تفيد بنية أنقرة الدفع بهذه السرية التابعة لها، مما مكن عناصر من القوات الكردية لنصب «كمين» على هيئة «حقل ألغام» مزروع بإحكام، انفجر عندما تسلل هؤلاء المقاتلون عبره ليسقط منهم «٢٧ عنصرًا»، وأصيب عدد مماثل منهم بإصابات خطيرة. الكمين النوعى نفذته القوات المحلية الكردية على نحو مزدوج، بحيث أمطرت معظم من تواجدوا بالمكان بوابل من النيران، لتدور معركة عنيفة طوال ساعات فجر الثلاثاء حول مدينة «عين عيسى»، التى كانت «قوات سوريا الديمقراطية» تتخذها مقرًا رئيسيًا لها.
بداية من نهار الثلاثاء، سارعت القوات الروسية الموجودة بالقرب من تلك الأحداث فى القيام بوساطة ترمم الصدمة التركية جراء هذه الخسارة الفادحة، وتمثلت الوساطة فى السماح للجانب التركى بأن يقوم بتسلم جثث القتلى، بعد أن بدت قوات سوريا الديمقراطية وهى تنوى احتجازها للمساومة عليها، وانتزاع مقابل ثمين لها، وهناك الكثير مما يمكن أن تناله من الجانب التركى، وسط مناطق تعج بتفاصيل واشتباكات للأحداث تبدو خانقة فى العديد من مشاهد السيطرة والاحتلال. فهناك مثلًا أن الجانب الروسى القائم بالوساطة، متورط على نحو ما فى التمهيد لهذا الهجوم النوعى الذى حاولت الفصائل الموالية لتركيا تنفيذه، فى منطقة «عين عيسى» ومحيطها الذى يعتبر ذا أهمية استراتيجية للجانب الكردى. فقد رصد الأخير أن هناك عناصر من جنسيات شيشانية وأزبكية من العاملين ضمن القوات الروسية، يقومون بتصوير مواقع عسكرية لقوات سوريا الديمقراطية فى منطقة عين عيسى، ويقدمونها للقوات التركية، مقابل الحصول منهم على ميزات تفيد التواجد الروسى القريب من هذه الدائرة. هذا كان سببًا فى عملية القصف الصاروخى المتبادل بين قوات سوريا الديمقراطية والأتراك، طوال نهار الثلاثاء حول قرية «معلق»، وفيه تكبدت فصائل المرتزقة الموالية لتركيا خسائر إضافية لم تفصح عنها. ما عدا الذى كشف عنه لاحقًا، أن أحد قيادات تنظيم «داعش» كان ضمن المجموعة التى حاولت تنفيذ التسلل، وهو قيادى كان مسئولًا عن إدارة التنظيم فى منطقة «تل أبيض» التى تحتلها القوات التركية الآن، وقد سقط فى كمين الألغام وقضى نحبه، رغم أنه أوكلت إليه مهمة تأهيل وإعداد المجموعة لعملية التسلل، التى كانت تستهدف قرية «المعلق» وما بعدها.
قبل أن ينقضى هذا النهار الدامى، وعلى مسافة ليست بالبعيدة كثيرًا عن محاولة التسلل وما جرى فيها، شهدت مدينة «عفرين» ما بدا وأنه عملية انتقامية سريعة من الأكراد، حيث ضرب «سوق الهال» بالقرب من منطقة الصناعة فى المدينة انفجار عنيف، استخدم فى تنفيذه سيارة مفخخة تمكنت من الوصول إلى هذه المنطقة من قلب المدينة، الخاضعة لسيطرة القوات التركية والفصائل التابعة لغرفة عمليات «غصن الزيتون»، الواقعة شمال غربى «حلب». الأمر أوقع عددًا كبيرًا من الضحايا والمصابين، فضلًا عن حجم دمار مادى واسع، مستهدفًا أرواح وممتلكات السكان المحليين الذين بقوا فى هذه المدينة، رغم الاحتلال التركى وفصائل موالاتها، لعدم قدرتهم على المغادرة، فارتضوا بالأمر الواقع فى انتظار متغير جديد يزحزح هذا الاحتلال العسكرى، الجاثم على أحداث مناطقهم منذ العملية العسكرية التركية «غصن الزيتون- ٢٠١٨». وطوال هذه السنوات تعرضت «عفرين» وغيرها من القرى المحيطة بها، لعمليات مماثلة، البعض منها نفذته الفصائل الموالية لتركيا، بغرض إرهاب السكان المدنيين وإجبارهم على الرحيل والنزوح من المدينة، وعمليات أخرى تولى تنظيم «داعش» تنفيذها كإجراء انتقامى من السكان الأكراد، المحسوبين كمؤيدين لقوات سوريا الديمقراطية، التى هزمت التنظيم وشاركت بفاعلية مع القوات الأمريكية فى خلع التنظيم من هذه المناطق، التى ظل يسيطر عليها ويديرها لحسابه فى السنوات الأولى من المأساة السورية. لذلك لم يقف الأهالى فى «عفرين» طويلًا أمام البحث عن مُنفِذ هذا العمل الانتقامى الأخير، فكلاهما القوات التركية وفصائل موالاتها أو تنظيم «داعش» يسير فى ذات الاتجاه، وحجم التعاون بينهما مما هو مكشوف هناك على نحو واسع. ولذلك لم يكن اشتراكهما سويًا فى عملية التسلل بـ«عين عيسى»، من الأمور المستجدة على التحركات التكتيكية التى لم تهدأ، بل تشهد هذه الفترة تطورًا وتجددًا وإعادة إحياء لقوى التنظيم، الذى ظل ويظل عاملًا فى فضاء الأجندة التركية طوال الوقت.
الشمال السورى على هذا النحو؛ وهناك الكثير المماثل الذى يجرى على مدار الأيام والأسابيع الماضية، حيث يبدو تسارع التصعيد من كل الأطراف وفى مناطق تعد مفاصل حاكمة لتلك المنطقة، التى تشهد حضورًا ماديًا بالقوات العسكرية والارتكازات الأمنية، فضلًا عن زحام لافت لعناصر استخبارات تعمل لعديد من المشغلين. وسط مدن وجيوب ومساحات شاسعة من الريف المحيط بها، يبدو المشهد على أبواب تشكل جديد لموازين القوى على الأقل، وقد تلحقه تغيرات دراماتيكية فور وصول الإدارة الأمريكية الجديدة، التى ينظر إليها كونها لديها حسابات مغايرة تمامًا عما كان عليه الوضع مع الإدارة السابقة. فهناك من يذهب لاعتبار ما جرى فى «عين عيسى» و«عفرين» و«الباب»، شكلًا من التمهيد النيرانى واستباق رسم خطوط السير والاستحواذ المتعجل، فضلًا عن الإمساك بمفاتيح وضوابط إيقاع النيران المتبادلة، قبل أسابيع من مشهد جديد سيشمل مجمل الشمال السورى، المرهق بالتنازع عليه.