رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخائن بطلًا.. حالة بولارد



على عكس توقع، أو رهان، ضابط سابق فى المخابرات الأمريكية، أصدر بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، بيانًا رحّب فيه بقرار رفع قيود الإفراج المشروط عن جوناثان بولارد، وقال إنه عمل «بلا كلل» لإحضاره إلى إسرائيل. كما أصدر الرئيس الإسرائيلى رؤوفين ريفلين، بيانًا آخر، تمنى فيه لـ«بولارد» أن ينعم بحياة مليئة بالصحة والسلام.
جوناثان جاى بولارد، Jonathan Jay Pollard، الذى أتم فى ٧ أغسطس الماضى عامه السادس والستين، كان يعمل فى مخابرات سلاح البحرية الأمريكية، وتم إلقاء القبض عليه سنة ١٩٨٥ بتهمة التجسس لحساب إسرائيل، وبعد ثبوت إدانته، عوقب بالسجن مدى الحياة. وفى المقابل، كافأته الدولة العبرية على خيانته لوطنه ومنحته جنسيتها، ومارست ضغوطًا على الإدارات الأمريكية المتعاقبة للإفراج عنه.
الضغوط الإسرائيلية، قابلها رفض قاطع من مسئولون كبار فى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وفى وكالة المخابرات المركزية (سى آى إيه)، لدرجة أن جورج تينيت، مدير الوكالة الأسبق، هدد بالاستقالة، حين تسربت أنباء عن اعتزام إدارة بيل كلينتون الإفراج عن بولارد، سنة ١٩٩٨، عندما كانت تقود مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، التى انتهت باتفاق «واى بلانتيشن».
بعد ثلاثين عامًا، قضاها «بولارد» فى السجن، زعمت وزارة العدل الأمريكية، أنها أعادت النظر فى القضية، وأصدرت قرارًا، فى ٢٠ نوفمبر ٢٠١٥، بـ«الإفراج المشروط والإلزامي»، كان أبرز شروطه هو عدم مغادرة الأراضى الأمريكية لمدة ٥ سنوات. ووقتها، نقلت «وول ستريت جورنال» عن مسئول رسمى أن إطلاق سراح بولارد بمثابة «حقنة بنج» لإسرائيل، لكى تخفف لهجتها ضد إدارة باراك أوباما، وتوقف انتقاداتها الحادة للاتفاق النووى الإيرانى.
بانتهاء السنوات الخمس، تم رفع قيود الإفراج المشروط، يوم الجمعة الماضي. وتوقع مارك بوليمروبولوس، ضابط المخابرات الأمريكية السابق، فى حسابه على «تويتر» أن الأمر سيكون «مزعجًا للغاية» لو تعاملت تل أبيب مع هذا الخائن باعتباره بطلًا، وتوقع أن يستقبل الإسرائيليون الخبر بلا ضجيج، لو كانوا أذكياء. لكن ما حدث، هو أن وسائل الإعلام الإسرائيلية أقامت الأفراح والليالى الملاح، وشاركها رئيس إسرائيل ورئيس وزرائها، كما أشرنا.
تقرير البنتاجون، عن حجم الضرر، الذى تسبب فيه تجسس بولارد، لا يزال سريًا. غير أن وثائق رفعت عنها الـ«سى آى إيه» السرية، سنة ٢٠١٢، قالت إن القوات الإسرائيلية استندت إلى معلومات حصلت عليها من بولارد فى التخطيط للغارة التى شنتها، فى أكتوبر ١٩٨٥، على مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس. وفى كتابه «أرض الأكاذيب: القصة الحصرية لجوناثان جاى بولارد: الأمريكى الذى تجسس على بلاده لصالح إسرائيل وكيف تعرض للخيانة»، الصادر سنة ١٩٨٩، أكد وولف بليتزر، أن بولارد قدم لإسرائيل كنزًا من المعلومات يشمل تقارير عن مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس، وأخرى عن القدرات العسكرية العراقية والسورية، وعن شحنات السلاح الروسية إلى البلدين وغيرهما من الدول العربية.
استمرت علاقة بولارد بالمخابرات الإسرائيلية لمدة سبع سنوات، تصادف أن شارك خلالها فى إحدى لجان التعاون المخابراتى بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ما مكنه من الإطلاع على المعلومات غير المتبادلة بين البلدين الحليفين، ونقل عنه «بليتزر»، فى كتابه، أنه كان محبطًا جدًا لأن تلك المعلومات كانت مرعبة. والطريف، أنه كان يتعامل مع ثلاثة دبلوماسيين فى السفارة الإسرائيلية، وتمكنوا من الهرب قبل مرور ٢٤ ساعة من إلقاء القبض عليه. ظلت إسرائيل تنفى أن بولارد عمل جاسوسًا لحسابها، إلى أن أقرت بذلك سنة ١٩٩٨، واعتذرت عنه، وتعهدت بعدم تكراره. ومع ذلك، أكد مجلس لأمن القومى الأمريكى، فى تقرير أصدره سنة ٢٠١٤ أن الإسرائيليين تجسسوا على الولايات المتحدة لمعرفة موقف الإدارة الأمريكية من أزمات الشرق الأوسط. وذكرت مجلة «نيوزويك» فى مايو ٢٠١٤، أن الدولة العبرية جندت عشرات الجواسيس للحصول على معلومات صناعية وتقنية. وأكد تقرير نشرته «فورين بوليسي» فى مارس ٢٠١٥، أن إسرائيل قامت فى السنوات الأخيرة بتصعيد جهود التجسس على الولايات المتحدة. وأثناء المفاوضات التى قادتها الولايات المتحدة مع إيران، اكتشف مسئولون كبار فى البيت الأبيض أن إسرائيل تتجسس على المحادثات، و... و...إلخ.
بين كل عمليات التجسس الإسرائيلية ضد الولايات المتحدة، تكتسب حالة جوناثان بولارد، أهمية خاصة، ليس فقط لأنها الأشهر، ولكن أيضًا لكونها نموذجًا فجًا لتغليب الولاء للدين على الانتماء للوطن، وإثباتًا جديدًا على أن المسافة بين العقائدى والسياسى، لدى كثير من اليهود، ولن نقول كلهم، تقترب من الصفر. كما جاء تعامل العدو الصهيونى مع ذلك الخائن على أنه بطل قومى، ليكشف، مجددًا، عن وضاعته، حقارته، خسته وانحطاطه، وليؤكد صحة الاتهام، الذى وجهه الألمان لليهود، وقت الحرب العالمية الأولى، بأنهم خانوا وطنهم لصالح يهوديتهم.