رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلم يزداد تعثرًا.. تكثر عوائقه.. يتضامن أعداؤه ضدى


لماذا مجتمعاتنا بكل هذه الضوضاء، التى تعوق النوم الهادئ، والتأمل المبدع، وتمنعنا من سماع صوت العصافير، والكروان، وهمس موسيقى الخريف؟
على مدى الليل والنهار، أصوات متداخلة بغيضة، وزعيق من كل الأشكال والدرجات والقبح، وتشنجات حنجرية فى الحوارات داخل البيوت، وعلى شاشات الإعلام، دوشة ليس لها أول من آخر، تحتل الهواء، والراحة، والعمل الذى يريد الإتقان.. ودعنا الهدوء، ولا أمل له فى الرجوع.
إن الهدوء تقدم، الهدوء حضارة، الهدوء أدب، الهدوء منطق، الهدوء ثقافة عالية، الهدوء إبداع، الهدوء صحة نفسية وصحة جسدية وصحة عقلية.
كانت لى أحلام كثيرة، تخليت عن جزء منها بإرادتى، وجزء آخر تم إجبارى على التخلى عنه.. الآن، فى نهايات نوفمبر ٢٠٢٠، لم يبق لى إلا حلم واحد لن أتخلى عنه، ولن أسمح لأحد، أو لشىء، أن يصادره.. «أن أعيش فى بيئة هادئة»، هذا هو الحلم المصر على البقاء.
على بساطة هذا الحلم، وربما سذاجته ونحن فى الألفية الثالثة، إلا أنه يزداد تعسرًا، وتكثر عوائقه، ويتضامن أعداؤه ضدى، كأنه ليس من حقى، كأنما هو ينتمى إلى زمن المعجزات، كأنما هو مثل الغول والعنقاء والخِل الوفى، من المستحيلات.
هناك حكمة تقول: «إن الإناء الممتلئ هادئ الصوت، بينما الإناء الفارغ يحدث صوتًا عاليًا».
مغزى الحكمة، أن هناك علاقة عكسية بين وجود الشىء والامتلاء الفعلى به، وبين حدوث الصخب.
تنبع أهمية وخطورة هذا المعنى من أنه يمتد ليشمل ليس فقط الأشياء، ولكن البشر، والحضارات أيضًا.
فالإناء الممتلئ هادئ الصوت.
والإنسان الممتلئ هادئ الصوت.
والحضارات الممتلئة هادئة الصوت.
وحين نتأمل حالنا- خاصة فى الآونة الخيرة- تصدمنا حقيقة سافرة الوجه، أننا مجتمعات شديدة الصخب.
هناك كمية من «الزعيق»، تحاصر حياتنا لا يبررها أى منطق، سوى أننا أصبحنا نعانى بدرجة مرعبة من «الخواء» الفكرى، والثقافى، والحضارى.
إن «الخواء» يولّد عدم الثقة، ويفجّر عدم الثقة- بدوره- أشكالًا مختلفة من التوتر.. ويكون الصخب المستمر فى الحوار، وفى السلوك، ضرورة نفسية لتفريغ شحنات التوتر، وأيضًا للتعويض عما هو غائب، ونفتقد إليه داخلنا.. كما أن الصخب- بحكم طبيعته التى تثير التشويش- يمنع صوت العقل الهادئ المقنع من الاشتراك فى المجادلة، وكشف الحجج الواهية أو المفتعلة لأصحاب النبرة الزاعقة، وبالتالى يكون خير ميكانيزم دفاع عن وجود هشاشة فكرية مرتبكة مضللة، لا تتحمل النقاش العلمى المنطقى المتسق.
والملاحظ فى حياتنا أن هناك مسألتين تأخذان نصيب الأسد من الصخب الزاعق المستمر، ألا وهما الفضيلة، والوطنية.
هناك حساسية مرتفعة الصوت تجاه قضية «الفضيلة»، وهناك حساسية مرتفعة الصوت تجاه قضية «الوطنية».
إن المجتمعات القوية أخلاقيًا، وثقافيًا، وحضاريًا، ليست فى حاجة إلى الحديث الصاخب المتضخم عن الأخلاق، ولا تدعو إلى الفضيلة بالزعيق.. والأوطان التى تنهض بحقوق الإنسان، وترسخ وتضمن العدالة لكل مواطن ومواطنة، لا تصدع أدمغتنا طوال الوقت بأحاديث صاخبة عن ضرورة الانتماء الوطنى، والوطنية، وحب الوطن.
ولا يمكن الحديث عن الصخب ولا نذكر الصخب المصاحب للخطاب الدينى منذ آلاف السنوات، وازداد منذ سبعينيات القرن الماضى، من المؤسسات الدينية الرسمية، ومن الجماعات الدينية الإرهابية المسلحة، المولودة كلها من رحم الإخوان المسلمين.. إن الصخب بشكل خاص فى مجال الدعوة الدينية، والمواعظ الدينية، ومحاصرة الناس بالحرام والنواهى والأوامر المقدسة، له تأثيره فى بث الرعب والخوف والعجز والجهل والاستسلام للفتاوى المضللة، وبالتالى ينتشر التدين الشكلى الخائف عن جهل وعجز ولا منطق.. وإذا انتشر هذا النوع من التدين، أصبحت التربة أكثر خصوبة لإنماء بذور الدولة الدينية.
إن الخواء، كما أنه لا يستقيم مع الهدوء، لا يستقيم أيضًا مع التواضع.. إن السنبلة الممتلئة بالقمح تكون فى وضع انحناء، بينما تأخذ السنبلة الفارغة وضع الوقوف.
الإنسان «أو المجتمع» الممتلئ محصن ضد حماقة الاعتقاد أنه خير الناس، وخير المجتمعات، وأنه الحاكم والقاضى على معتقدات الآخرين من البشر، ومن المجتمعات.
على العكس، فإن الإنسان «أو المجتمع» الخاوى لا يعرف إلا العلاقة العمودية، التى تقوم بين «أعلى»، و«أدنى». وبالطبع يكون «الآخر»، أيًا كان، هو «الأدنى» الذى يحتاج إلى التقويم، والتصحيح.
وفى معاداة «الخواء» للتعايش السوى مع «الآخر»، فإن أصحابه يلهثون- فى المقابل- لإيجاد أى شىء يمكن أن يتملكهم، ويستقطب طاقتهم، وغالبًا ما يكون هذا الشىء هو التعصب لزعيم سياسى، أو نجمة سينمائية، أو لاعب كرة، أو مطرب، أو عصر من العصور التاريخية الماضية، أو نمط صارم من العيش.. المهم أن هذه كلها وسائل هروب، لتفادى المواجهة المباشرة والحاسمة لحقيقة الخواء الداخلى.
ليس الخواء الفكرى، والثقافى، والحضارى سمة مجتمعات دون غيرها،. ولكنه عنوان عالمنا المعاصر.. إن الحروب، وسفك الدماء، وأنظمة استغلال البشر، والعنف ضد الطبيعة، واضطهاد النساء، والتجارة فى السلاح، ونقل الأعضاء، والتربح على جثث البشر، وإيقاع الحياة الصاخب اللاهث، والأغنيات التى تحقق ملايين المشاهدة بينما هى مقززة الكلمة والصوت واللحن، والإعلام عالى التكلفة منخفض الجودة، والبحوث والتجارب التى تنتج لنا الأمراض الجديدة والفيروسات الغريبة الفتاكة، وإنفاق الملايين على زيادة القدرة الجنسية، والتعليم الذى ينتج العبيد والجوارى لا المواطنين والمواطنات، وضحايا الدعارة السافرة والمقنعة، واستخدام الله للفلوس والحكم- ما هى إلا حضارة عالمية خاوية، مفلسة الفكر، والمعنويات، وإن ملكت ذروة العلم، والتكنولوجيا، وأساليب التضليل واللصوصية والتوحش.