رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فصل الأدب عن الدين معركة متجددة


لا تتوقف معركة فصل الدين عن الأدب، إنها مستمرة، وتتكرر، بطرق وأشكال مختلفة من زمن بعيد. فى ذلك يقول الروائى ميلان كونديرا فى روايته «كائن لا تحتمل خفته» وهو يناقش فكرة الأحداث التى تتكرر بلا نهاية: «هناك فرق شاسع بين روبسبير الذى لم يظهر سوى مرة واحدة فى التاريخ، وروبسبير الذى يعود بشكل دائم ليقطع رءوس الفرنسيين».
ولعل ذلك التشخيص ينطبق أكثر ما ينطبق على العودة المستمرة لدعاة ربط الدين بالأدب، وقطع رءوس الفن والأدب بسيوف القوامة والوصاية الأخلاقية. وقد شهد مهرجان طنطا للشعر الذى أُقيم ما بين ٣٠ أكتوبر و٢ نوفمبر الحالى تجديدًا لتلك المعركة حين قرأ شاعران بعض قصائده، فنهض شخص يدعى البيومى عوض من خريجى جامعة الأزهر، ليهاجم الشاعرين ويتهمهما بخدش الحياء والكفر والعهر! ثم زاد فتوعدهما فى فيسبوك بالثأر قائلًا: «وعزة ربى لأنبتن للحق والخير والجمال أسنانًا وأنيابًا»! هكذا نسمع للمرة الأولى عن أن للجمال أنيابًا، لكن ذلك هو مفهوم السلفيين والإخوان للجمال والفن، الذى لا يكون إلا مفترسًا بأنياب وأظافر! ويلوح هجوم السلفيين والإخوان على الثقافة كأنه عود أبدى لا ينتهى لنفس الوقائع وبنفس الأسلحة تحت نفس الغبار تقريبًا! ففى الثلاثينيات احتشد الجهلة جميعًا فى مواجهة كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى»، ثم ظهروا على خيولهم فى الأربعينيات عندما نشر إسماعيل أدهم كتابه «لماذا أنا ملحد؟»، وفى الستينيات قطعت رأس رواية «أولاد حارتنا» فى صمت وهدوء، ومنذ عشرين عامًا ظهرت جيوش السلفيين مجددًا لتمنع رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر»، ووصل الأمر إلى حد أن عمال المطابع صادروا مقالًا للشاعر الكبير أحمد حجازى وهو فى المطبعة من مجلة «إبداع»! وفى كل مرة كانت جيوش الظلام تستمد البراهين على صحة موقفها من الدين، والأحاديث، رغم أن الأدب وسيلة معرفة تتم محاسبتها بقوانين أدبية فحسب، بالضبط كما أننا لا نستطيع أن نحاكم العلم إذا قال إن الأرض لم تخلق جيولوجيًا فى سبعة أيام، لأن للعلم براهين تثبت أن الأرض خلقت فى زمن طويل. لكننا نخسر الكثير فى كل مرة، حين نضع القواعد الدينية فى مواجهة العلم أو الأدب، نخسر على كل المستويات عندما نخلط بين المناهج والطرق والأهداف والوسائل. لكن عجز الإخوان والسلفيين التاريخى عن تقديم أى شىء فى مجال الفن والأدب يجعلهم ينهالون بسيوفهم على كل بارقة فكر، وشعور فنى.
تاريخيًا لم يظهر أديب واحد إخوانى، ورغم الجعجعة التى لا تنتهى بشأن «الأدب الإسلامى»، فإن ذلك الشعار يكشف دومًا عن لا شىء، لأن الأدب بطبيعته قومى، لا ينهض على ديانة بل على اللغة والقومية. وفى أربعينيات القرن الماضى فكر الممثل حسين صدقى أن يعتزل التمثيل واستشار فى ذلك سيد قطب، فقال له الأخير: «إن الحركة الإسلامية بحاجة إلى فن إسلامى». لكن شيئًا من ذلك الفن لم يظهر قط. ظهرت فقط عبارات مثل: «وعزة ربى لأنبتن للحق والخير والجمال أسنانًا وأنيابًا»! وهذا كل ما لديهم! أنياب للأدب والشعر، وقنابل للحياة السياسية، واغتيالات للمعارضين! أما الفن الإسلامى الذى تمناه سيد قطب فلم يظهر قط، لأن وظيفة الأدب لم تكن فى يوم من الأيام وظيفة دينية أو وعظية، وقد كان، وما زال، مجال الأدب هو السلوك البشرى بتجلياته المختلفة الاجتماعية والوطنية والفردية، ولم يكن دور الأدب أيضًا الدعوة لمكارم الأخلاق، لأن الفن تصوير للحياة إجمالًا بحلوها ومرها، وليست الحياة كلها «مكارم أخلاق»، فهى عامرة بالخطاة والتائبين وكل نقاط الضعف البشرى! لذلك يبقى السلفيون والإخوان أعداء ألداء للفنون عامة، كما أن تعصبهم الدينى يحجب عنهم إمكانية التفاعل مع التراث الفكرى الإنسانى العالمى.
أظن أنه لا بد من وقفة قوية للمثقفين لفصل الأدب عن الدين، وترسيخ مبدأ أن محاسبة الفنون تتم بمعايير ومناهج تختلف تمامًا عن المعايير الدينية، وذلك حرصًا على الدين وعلى الأدب.