رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السد العالى.. اليوبيل الذهبى «3-3»


رأينا كيف أصبح مشروع إنشاء سد جديد من أهم المشروعات التنموية الملحة المطروحة على الساحة المصرية منذ أربعينيات القرن العشرين، لذلك لم يكن غريبًا أن تتبنى ثورة ٢٣ يوليو هذا المشروع وتضعه على رأس أولوياتها، وهى الثورة التى أخذت على عاتقها إصلاح النظام الاجتماعى- الاقتصادى فى مصر.
لذلك تبنت الثورة مبكرًا هذا المشروع، لا سيما مع الزيادة السكانية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وشبه الثبات فى مساحة الأرض الزراعية، والتقارير الدولية حول تعثر الاقتصاد المصرى، إذا سار فى نفس المسار التقليدى.
لكن المعضلة الكبرى بالنسبة إلى مشروع السد العالى كانت مشكلة التمويل؛ إذ تعجز الإمكانيات المصرية عن الوفاء بذلك، لا سيما أن الدراسات المبدئية أظهرت أن هذا المشروع سيأخذ فترة طويلة فى الإنشاء، ربما أكثر من عشر سنوات، ولا بُد من توافر التمويل اللازم طوال هذه المدة، وكان لا بُد من الذهاب إلى البنك الدولى، أو كما تقول أغنية «حكاية شعب»: «راح على البنك اللى بيساعد ويدِّى»، ومفهوم التأثير الأمريكى على قرارات البنك حتى الآن.
وإذا أردنا تفهم معركة تمويل السد العالى لا بُد من النظر إلى هذا الأمر فى إطار الظرف التاريخى آنذاك، ونقصد الحرب الباردة بين المعسكر الشرقى بزعامة الاتحاد السوفيتى والمعسكر الغربى بزعامة أمريكا، كان عبدالناصر فى الحقيقة ميالًا فى البداية إلى طلب التمويل من الغرب؛ إذ لم يكن ناصر آنذاك مرتاحًا للاتحاد السوفيتى وعلاقاته بالشيوعيين المصريين، وبالفعل رحب الغرب كله فى البداية بفكرة تمويل السد العالى، وكانت الرؤية الغربية أن مصر أكبر دولة فى المنطقة، ومن المهم ربطها عن طريق القروض- طالما لم ترتبط عن طريق الأحلاف العسكرية- بالغرب، ورأى البعض أن ترك مصر فريسة للاتحاد السوفيتى، سيساعد على مزيد من التغلغل الشيوعى فى المنطقة.
إلى هنا كانت الأمور تسير بشكل جيد بين عبدالناصر والغرب، لكن المشكلة أن كل شىء لدى الغرب لا بُد له من مقابل، وبالنسبة لأمريكا كان المقابل الأول أن تبدأ مصر بحكم مكانتها فى المنطقة فى محادثات سلام مع إسرائيل، وأن تقدم مصر حلولًا لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وأن تفرض مصر ذلك على بقية الدول العربية، ولعب اللوبى الصهيونى فى أمريكا دورًا فى ذلك الأمر، كما طلبت أمريكا من مصر التخلى عن صفقة الأسلحة التشيكية التى كانت فى الحقيقة أسلحة سوفيتية، لأن ذلك يخل بمبدأ التفوق العسكرى لإسرائيل فى المنطقة، كما طلبت أمريكا من مصر تعهدًا بعدم زيادة مساحة الأراضى المزروعة بالقطن حتى لا يؤثر ذلك على القطن الأمريكى فى الأسواق العالمية، وطلبت إنجلترا التفاوض بين مصر والسودان بشأن المسألة المائية، وحقوق السودان المائية قبل البدء فى إنشاء السد، وألحت فرنسا على تخلى مصر عن سياسة دعم الثورة الجزائرية.
وكان الأمر بالنسبة لمصر مسألة أخرى، هى مسألة السيادة المصرية ووطنية القرار، أو ما أطلق عليه عبدالناصر «الكرامة»، لذلك كان المشروع البديل لدى مصر هو تأميم قناة السويس لتكون مصدرًا للعملة الصعبة اللازمة لتمويل السد، وقبول العرض السوفيتى بتمويل وتقديم الدعم الفنى لمشروع السد العالى.
وكانت بحق ضربة من معلِم، وها نحن نحتفل باليوبيل الذهبى للسد العالى، ونحتفل أيضًا بقناة السويس، رمزين للوطنية والكرامة المصرية.