رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجيش المصرى ومعارك تأديب الجيش التركى



هذا مقالنا الثالث الذى نتعرض فيه إلى تهديدات دول الأطراف لمصر.. بدأنا بالأتراك، وعرضنا فى المقال الأول رحلتهم من الإستبس للأناضول وتوسعاتهم الإقليمية، حتى أُجبروا على العودة لحدودهم بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى، قبل تعهد أردوغان بإعادة «العثمانية الجديدة».. فى المقال الثانى تناولنا عقدة الأتراك من الجيش المصرى، رغم استفادتهم منه كذراع عسكرية للإمبراطورية العثمانية، قبل انقلابه عليهم وإلحاقه هزيمة نكراء بهم فى «قونية ١٨٣٢»، بسبب حنث السلطان بوعوده.. وما زال فى ملف هزائم الجيش التركى على أيدى جيش مصر الكثير.
قيادة المنطقة العربية مسئولية منوطة بمصر، بحكم قوتها الذاتية، لكن هذا ألَّب عليها عداء الأتراك عبر القرون الماضية، ما أدى إلى قطع العلاقات السياسية، وتدهور جميع التعاملات.. الجيش المصرى بقيادة الظاهر بيبرس سحق الأتراك السلاجقة المتحالفين مع المغول فى معركة الأبلستين بالأناضول عام ١٢٧٧، دخل «قيسارية» عاصمة سلطنة الروم واعتلى عرشها.. وأعيدت الكَرّة عندما دفع السلطان قايتباى جيشًا، بقيادة الأمير سيف الدين أزبك، تمكن من هزيمة السلطان التركى بايزيد الثانى فى معركة «أضنة» عام ١٤٨٨، وأجبره على الاستسلام.
عقب تدمير المغول العراق، وهم من أصول تركية، انتقل ثقل الدولة العربية الإسلامية إلى مصر، فزحفت جيوش الدولة العثمانية بقيادة سليم الأول إلى سوريا التابعة لدولة المماليك المصرية، وعبرتها فى اتجاه مصر مباشرة، بعد استمالة حكام الأقاليم باستخدام الرشوة، وتمكنوا من هزيمة المماليك فى معركتى «مرج دابق» و«الريدانية»، وسقطت مصر عام ١٥١٧.. العثمانيون أعدموا طومان باى حاكم مصر على باب زويلة، وقاموا بممارسة أسوأ أساليب القمع البربرية ضد المصريين، كما استخدموا نفس الأساليب فى سوريا، حيث نصب «جمال باشا» الحاكم التركى المشانق فى ميادين دمشق، ونفذ عمليات إعدام عشوائية دون محاكمة، فى محاولة لإرهاب العرب.. سليم الأول جمع ألف صانع ماهر وحرفى متميز، وأرسلهم من مصر إلى الأستانة، للارتقاء بالإعمار والتشييد والفنون، الذى تفتقد مثيله الثقافة التركية البربرية.. مصر وعت الدرس وتخلصت من جيش المماليك الذى يفتقد الولاء للوطن، وقامت ببناء «جيش الفلاحين» على يد محمد على، بانى مصر الحديثة، هذا الجيش هو الذى سحق الجيش التركى فى «قونية» عام ١٨٣٢، على نحو ما أوضحنا فى مقالنا الثانى.
محمد على قام بتوحيد الشام، ووضع نظامًا للإدارة المركزية.. حوَّل الضرائب إلى تصاعدية للتخفيف عن الفقراء، ومنع الإقطاعيين من فرض أى أعباء عليهم.. وطّن البدو الرُّحل حول المدن، ووفَّر لهم الأراضى الزراعية للاستقرار.. عزز وسائل النقل بين المدن، وقام بتأمين الطرقات.. لكن تركيا العثمانية والدول الأوروبية تآمرت عليه، وألّبت الشعب ضد الحكم المصرى، مستغلة مشاعر الضيق لدى البعض من حملات مصادرة السلاح، التى سعى الجيش المصرى من ورائها إلى الارتقاء بالحالة الأمنية فى ربوع الدولة، كما ضخمت مخاوفهم من التجنيد الإجبارى، الذى تم فرضه لتوفير متطلبات الدفاع والأمن المحلى عن البلاد، وحرضوا قرابة ١٠٠.٠٠٠ مجند على الهروب من الخدمة إلى خارج البلاد.. اندلعت الاضطرابات فى بعض مدن فلسطين ولبنان وسوريا من ١٨٣٤ حتى ١٨٣٧، فأصاب الضجر محمد على، واستدعى قناصل الدول الأجنبية ١٨٣٨، ليبلغهم أن ضيقه من مؤامرات السلطان يدفعه إلى التفكير فى الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية، درءًا لمؤامراتها.. السلطان محمود اعتبر ذلك تمردًا، وأعلن الحرب على مصر فى يناير ١٨٣٩، بعد أن جهز جيشًا قوامه ٨٧.٠٠٠ جندى بقيادة «حافظ باشا»، ويعتبر أكبر حشد عسكرى فى تاريخ تركيا، حيث توجه جنوبًا عبر الأناضول ليلاقى الجيش المصرى.
الهجوم العثمانى بدأ فى «نصيبين» يونيو ١٨٣٩، إبراهيم باشا قائد الجيش المصرى قام بمناورة التفاف واسعة حول جبهة الجيش التركى، ليتجنب كثافة وعمق دفاعاته، وقوة تأثير القصف المدفعى، ما سمح له بتطويقه، وأحدث ارتباكًا شديدًا بين صفوفه، ما أجبره على التقهقر تاركًا فى أيدى المصريين ١٦٦ مدفعًا و٢٠.٠٠٠ بندقية وتشوينات من الذخائر والمؤن.
النصر الحاسم حالف المصريين فى تلك المعركة المشهودة، التى لم تتجاوز ساعتين، لبراعة خطتهم، وامتلاك جيشهم عنصر المفاجأة.. الجيش التركى فقد ٤.٠٠٠ قتيل وجريح، ووقع فى الأسر حوالى ١٥.٠٠٠، وسقطت كل الحاميات التركية فى الشام، مما يعتبر أكبر انتصار للجيش المصرى، لأنه قضى تمامًا على قوة الدولة العثمانية الحربية، وأصبح الطريق إلى الأستانة مفتوحًا على مصراعيه.. السلطان العثمانى لم يحتمل وطأة الهزيمة، وتوفى بعدها بأيام قليلة.. وما أزعج الأوروبيين بشدة أنهم فوجئوا بميل قطاع واسع من العثمانيين للالتفاف حول محمد على وتفويضه، باعتباره الأقدر على إنقاذ الدولة العثمانية من التفكك والسقوط وبناء نهضتها.. وما أصابهم بالذعر أن قائد الأسطول العثمانى فى الإسكندرية أحمد باشا فوزى، قام بتسليم الأسطول كله لمحمد على بالإسكندرية فى يوليو ١٨٣٩، لتصبح مصر أكبر قوة بحرية وبرية فى البحر المتوسط.
الجيش المصرى استغل حالة الفراغ التى نشأت بغياب الجيش العثمانى، وتحرك لتوسيع دائرة نفوذه، ونجح فى احتلال ميناء البصرة وتقدم باتجاه الأحساء والقطيف، فأحدث ذلك إرباكًا شديدًا فى السياسة الدولية، ما دعا الدول الاستعمارية الأوروبية إلى التحالف، خشية تهديده لطرق التجارة مع الهند، وتم توجيه إنذار إلى محمد على، رحبت به الأستانة على الفور.. محمد على دعا الصدر الأعظم «خسرو باشا»، فى خطاب شخصى، إلى الوحدة، لمواجهة المخاطر التى تتعرض لها الدولة العثمانية، لكنه أطلع الدول الأوروبية على الرسالة، فزاد ضغطها على محمد على، وتم إبرام معاهدة «لندن» فى يوليو ١٨٤٠، بين إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا، والتى تضمنت نصوصًا مجحفة بمصر جردتها من مستعمراتها وحرمتها من ثمرة انتصارها، وأجبرتها على سحب قواتها من الشام، وفرضت قيودًا دولية على تمدد الجيش المصرى، واكتفت بتخويل محمد على وخلفائه من بعده وراثة حكم مصر والسودان والمنطقة الجنوبية من سوريا.

عضوية تركيا فى حلف بغداد أوقعتها فى تناقض استراتيجى جديد مع الثورة المصرية عام ١٩٥٢، الحلف بالنسبة لمصر كان يمثل خطرًا على استقرار المنطقة وأمن دولها.. ووصل التنافر بين الدولتين إلى طرد جمال عبدالناصر السفير التركى من حفل رسمى بدار الأوبرا، نتيجة تعليقاته السلبية على الثورة، خاصة ما يتعلق بقانون الإصلاح الزراعى، الذى مسّ بعض الإقطاعيين من ذوى الأصول التركية، وهكذا تم قطع العلاقات بين البلدين لسنوات طويلة.
بعد تنحى حسنى مبارك بادر أردوغان بزيارة القاهرة فى سبتمبر ٢٠١١، للمسارعة فى بناء جسر من النفوذ بمصر، لكنه وضع كل رهاناته على الإخوان، ولذلك لقى خسارة استراتيجية عندما سقط حكمهم.. دعا إلى قيام تحالف مصرى تركى، وقام بزيارة ثانية للقاهرة فى نوفمبر ٢٠١٢، محاولًا دعم الفكرة، ومنح مرسى مليار دولار قرضًا عندما زار أنقرة!.. وقبل حلول موعد التحرك الشعبى فى ٣٠ يونيو أوفد هاكان فيدان، رئيس المخابرات، فى زيارة طارئة للقاهرة، ليحذر مرسى من خطورة الموقف وتداعياته على مستقبل الإخوان، خاصة فيما يتعلق بدعم الجيش المصرى للتحرك الشعبى.
قيادة الجيش ألغت المناورات البحرية المشتركة فى شرق المتوسط التى تم الاتفاق عليها بين تركيا ومرسى، وأعادت الخارجية قطع العلاقات مع أنقرة، وتم طرد سفيرها من مصر فى نوفمبر ٢٠١٣.. وهو الإجراء الطبيعى فى ظل حالة التنافر الاستراتيجى بين الدولتين.. بعدها شكلت مصر محورًا مع اليونان وقبرص أنجز عمليات ترسيم حدود المناطق الاقتصادية البحرية بين الدول الثلاث، وتم التنسيق بشأن عمليات استخراج ونقل وإسالة وتصدير الغاز الطبيعى، لتنخرط دول المنطقة فى المنظمة الإقليمية لمنتدى غاز شرق المتوسط بالقاهرة.. وبذلك خسرت تركيا رهاناتها على اتفاقيات الترسيم غير الشرعية مع السراج، وتقطعت أواصر علاقاتها مع جميع دول المنطقة.
المخابرات العامة المصرية كشفت عن تورط تركيا فى دعم النشاط الإرهابى المضاد فى سيناء، وقامت بالقبض على ٢٩ متهمًا فى نوفمبر ٢٠١٧، بخلاف عدد آخر من الهاربين، حيث تمت التحقيقات، بمعرفة نيابة أمن الدولة العليا، بتهمة الإضرار بالمصالح القومية للبلاد والانضمام إلى جماعة إرهابية.. التحريات رصدت بالصوت والصورة اتفاق ممثلى أجهزة الأمن التركية مع عناصر تنتمى للتنظيم الدولى للإخوان، على وضع مخطط يهدف إلى الاستيلاء على السلطة فى مصر، من خلال إرباك الأنظمة القائمة فى مؤسسات الدولة المصرية لإسقاطها.

هناك أمور بالغة الدلالة فيما نعايشه من تطورات تتعلق بموقف تركيا من مصر، سواء فى شرق المتوسط أو على الساحة الليبية، وسنعطى لذلك مثالين: الواقعة الأولى أن تركيا وجهت إنذارًا بالقيام بأعمال مسح سيزمى «زلزالى» فى الفترة من ٢١ يوليو إلى ٢ أغسطس ٢٠٢٠، وحددت ضمن مناطقه «النقطة رقم ٨»، التى كان معروفًا وقوعها فى نطاق المياه الاقتصادية الحرة لليونان، لكن مصر كانت تتفاوض معها بشأن ترسيم الحدود، ما نتج عنه دخولها ضمن المنطقة الاقتصادية الحرة لمصر.. المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية أعرب عن اعتراض مصر على تضمينها داخل نطاق المسح التركى، واعتبر ذلك انتهاكًا واعتداءً على سيادة مصر وحقوقها البحرية، تركيا سرعان ما عدلت الإنذار، وأخرجت منه النقطة المذكورة.. الواقعة الثانية عندما اعتبر الرئيس السيسى «سرت- الجفرة» خطًا أحمر فى يونيو الماضى، ما فرض على تركيا تغيير خطتها الهجومية، ومنعت الميليشيات والمرتزقة من الاقتراب من الخط المذكور.. الدلالة المؤكدة للواقعتين هى أن الجيش التركى حريص على تجنب أى مواجهة مع الجيش المصرى، ومما يؤكد ذلك تزامن الواقعتين مع محاولات تركية للتهدئة مع القاهرة، وإجراء اتصالات أمنية أملًا فى أن تتحول إلى سياسية مستقبلًا، وهو ما تحفظت عليه مصر بسبب استمرار سياسة تركيا العدوانية بالمنطقة. يبدو أن عمليات تأديب الجيش المصرى للجيش التركى المتعاقبة رسخت عقدة فرضت نفسها على الاستراتيجية التركية المعاصرة، ذلك أمر جيد، لعله يُغِل يد الشر التركية بعيدًا عن مصر وشعبها وعن مصالح أمنها القومى.