رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التكفير قرين الجهل


كنا قد تحدثنا عن التكفير فى مقالة سابقة، وعرفنا أن القدماء وضعوا تعريفًا للكفر وأطلقوا عليه «المعنى الاصطلاحى»، على الرغم من أنه يختلف عن المعنى اللغوى، وعرفنا أن هناك فارقًا بين عدم الإيمان والكفر، فهذا غير ذاك، الكفر يعنى المعرفة ثم الإنكار والتغطية، وعدم الإيمان يعنى «عدم التصديق»، وقد يعود عدم التصديق لأسباب كثيرة منها غياب العلم والمعرفة، وغياب العلم هذا جرّ على أمتنا آفات كثيرة، وعدم قدرتنا على إنتاج المعرفة أوقعنا فى الجهل، وقد كانت آفة أمتنا هى عدم القراءة، لذلك كانت أول كلمة نزلت فى القرآن «اقرأ» هى فى حقيقتها رسالة كاملة من رب العالمين لنا، ولذلك أيضًا أقسم الله سبحانه بالقلم وما يسطرون، والأمم التى تريد أن تأخذ مكانتها فى الحضارة الإنسانية يجب أن تقرأ، ولكى نقرأ يجب أن نكتب، وفى بلادنا أصبحنا نقرأ والحمد لله، ولكننا نقرأ العناوين فقط! ثم ننطلق بعدها فى جحافل منظمة للهجوم على ما لم نقرأه والذى اكتفينا بقراءة عناوينه! لذلك أصبحنا الآن أمام آفة أخرى هى آفة ثقافة العناوين وهى ثقافة «تويترية» و«فيسبوكية» أفسدت العقل العربى وجعلته فى منتهى السطحية.
من أجل هذا يا بُنى أدعوك للقراءة الكاملة، ثم التفكير والتدبر، ولك بعد أن تقرأ أن تقبل أو ترفض أو تقبل بعضًا وترفض بعضًا، لك كل الحرية وفقًا لإمكاناتك العقلية وخبراتك الإنسانية، وملكاتك الذهنية، وفى كل الأحوال يجب أن تعلم أن ما نقوله ونكتبه هو بضاعتنا نحن، منسوبة لنا، أنتجتها عقولنا النسبية، سواء كان الذى كتب أو قال هو الحبر العلامة، أو الصحابى أو التابعى، أو الذى قال وكتب هو الأستاذ «عادى» الذى يعيش بيننا، كل ما هو مطلوب منك يا بُنى هو أن تطرح أسماء السادة الكتاب جانبًا، وتنظر بروية وعمق وتؤدة إلى ما كتبوه.
لكل ما سلف كنت قد دعوت فى مقالة سابقة إلى ضرورة ضبط مصطلح «الكفر»، وتوحيد المعنى اللغوى لكلمة الكفر مع المعنى الاصطلاحى، والحقيقة أننى كنت أطالب بضبط مصطلح «الكفر» على القرآن الكريم، فكل آيات القرآن الكريم تتحدث عن معنى واحد للكفر هو «الستر والتغطية»، أى أن الكافر هو من علم الحق ثم أنكره ولم يتبعه، وهذا معنى يختلف عن معنى «عدم الإيمان»، لأن غير المؤمن هو واحد من بنى البشر خلق الله له عقلًا، أى أنه لم يخلق عقل نفسه، وعقله هذا الذى خلقه الله له لم يقتنع بالإيمان، سواء بالله أو بالإسلام، رأى هذا المسكين دعاة يدعون للإيمان بالله وهم يقطعون رقاب عباد الله ثم يُكبرون «الله أكبر الله أكبر»، ثم رآهم يشرحون الإسلام للناس فيقولون عنه قولًا بشعًا لا يقبله عقل أو قلب سليم، هذا المسكين الذى لم يخلق عقل نفسه، ولم يسمع عن الإسلام من أهله إلا الشر لم يؤمن، فإذا بالله يقضى عليه بدخول النار أبد الآبدين بلا انتهاء، لأن الشيخ فلان والحبر علان والتابعى زيد قالوا عنه إنه كافر! أين العدل يا بُنى فى هذا القول والله هو العدل، ألست معى فى هذا؟! ولله المثل الأعلى، ولكننى سأضرب لك مثلًا، أتقبل يا بُنى أن يخلقك الله ضعيف الفهم، ثم يدخلك النار لأنك لم تفهم؟!
الله يا بُنى قال عن الكفر «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا..»، هؤلاء جاءتهم الآيات والعلامات فأدركوا الرسالة والنبوة، واستيقنت أنفسهم أنها صحيحة، ولكنهم مع ذلك جحدوا بها وأنكروا صحتها لمجرد الظلم والعدوان، ولذلك يقول الله للرسول، صلى الله عليه وسلم، عن كفار قريش «فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون»، أى أن المسألة هنا ليست متعلقة بعدم تصديقهم لك، إذ أنهم يعلمون أنك نبىٌ أرسلك الله بالهداية، ولكنهم حجبوا هذا العلم جحودًا، وعندما دخلوا معك يا محمد، صلى الله عليه وسلم، فى جدل استخدموا طريقة التعجيز لا طريقة الاستبيان والاستيضاح، فقالوا «لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا»، هيا يا محمد اضرب بعصاك الأرض لتفجر لنا ينبوعًا كبيرًا من الماء، ثم خافوا أن يفعلها الرسول فزادوا فى الطلب وقالوا «أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا» أى أننا نريد أن تضرب لنا الأرض فيكون لك حدائق غناء فيها الأشجار والنخيل وتجرى فيها الأنهار! ثم وجدوا أن الأمر قد يكون فى استطاعته فأرادوا تحديًا من نوع آخر هو «أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا» ثم استصغروا هذا التحدى فقالوا «أو تأتى بالله والملائكة قبيلًا» أى عليك يا محمد أن تأتى لنا بالله والملائكة هنا فى أرضنا فنقابلهم ونشاهدهم! ثم رأوا أن يصلوا إلى نهاية المطاف فقالوا له «أو يكون لك بيت من زخرف» أى من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، ثم قالوا «أو ترقى فى السماء» تصعد أمامنا الآن فى السماء فنراك وأنت تصعد، ومع ذلك فإننا «ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه» أى هات لنا رسالة من الله موقعة منه ومختومة بخاتمه تقول إنك الرسول! لذلك ولأن جدالهم كان فارغًا ولمجرد الكفر، وليس هدفه الإيمان قال الله للرسول، صلى الله عليه وسلم: «قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرًا رسولًا».
فإذا قرأنا القرآن على مهل وبروية، قراءة خاصة لنا، سنجد أن كل الآيات التى تتحدث عن الكفر والكفار تسير على نفس المنوال، وهو أمر مختلف تمامًا عن عدم الإيمان، عدم الإيمان هذا ينطبق عليه ما يخص أهل الفترة، أى الذين لم تصل لهم الرسالة، وإذا قرأنا القرآن أيضًا بتؤدة وإمعان فكر سنجد أن الإسلام أكثر رحابة من الفهم الذى استقر فى أذهاننا، فالله سبحانه قال «إن الدين عند الله الإسلام» وقال أيضًا «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه»، فالإسلام هنا هو التسليم لله، لذلك قال سبحانه عن إبراهيم إنه «كان حنيفًا مسلمًا» وقال الله أيضًا «ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون». وهكذا تجد كل آيات الله، فالإسلام إذن هو التسليم والخضوع لله، لذلك فإن الإنسان محاسب على خضوعه لله وحده، وفى الحديث الشريف قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «كل من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» وليس فى الحديث كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة، فالشهادة التى تدخل الجنة هى الشهادة بوحدانية الله، وعندما أراد الصحابى أبوعمرو سفيان بن عبدالله الثقفى أن يُعرّف ما هو الإسلام قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قل لى فى الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم، فالإسلام إذن هو الإيمان بالله ثم الاستقامة.
هل هناك أبسط من ذلك؟! هذا هو دين الله الذى فهمناه من آيات القرآن الكريم، والقرآن بيننا ولكننا اتخذناه مهجورًا، وسبحانك يا الله يرتجف قلبى فيهتز بدنى وأنا أقرأ الشكوى التى سيقدمها الرسول، صلى الله عليه وسلم، لله رب العالمين يوم القيامة، إذ يقول «يا رب إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورًا»، وحين قرأت التفاسير وجدتهم يتحدثون عن كفار مكة على أنهم قوم الرسول، فى حين أن المعنى الواضح من هذه الآية هو أن قوم الرسول، صلى الله عليه وسلم، هجروا القرآن، والهجر لا يأتى لغة قبل الاندماج، أى أن هؤلاء اتخذوا القرآن، ثم هجروه وقطعوا الصلة بينهم وبينه، والقوم هم من يقومون على أمر الرجل، وطالما أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، نسب القوم لنفسه بكلمة «قومى» فيكون المقصود هنا المسلمين، نحن الذين هجرنا القرآن وغفلنا عن تدبره، فاللهم ارزقنا فهم القرآن وتلاوته والعمل به.