رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد قطة العدوى.. العالم الجليل


الشيخ محمد عبدالرحمن قطة العدوى وُلد بمدينة منفلوط فى عام ١٧٩٥م، هو ابن الإمام الشهير الشيخ عبدالرحمن قطة العدوى المالكى، قرين مفتى السادة المالكية الشيخ محمد الأمير الكبير، أجاد القرآن حفظًا وترتيلًا، اختاره رفاعة الطهطاوى للتدريس بمدرسة الألسن، ثم عُين بالمطابع الأميرية وكان عليه أن يكتب خاتمة بعض الكتب أو يقوم بشرح الغامض أو يُنشئ تقريظًا أو تعقيبًا عليها، وخرج من بين يديه أكثر من ثلاثمائة كتاب فى الرياضيات والطب وأمهات الكتب الأدبية، وله مؤلفات خاصة به كثيرة.. فضيلة الشيخ محمد قطة العدوى، عالم ومدرس بكلية الألسن ورئيس قسم المصححين بالمطبعة الأميرية، عاش محمد قطة العدوى بين الكتب وللكتب فى صمت ورحل عن دنيانا فى صمت بعد حياة حافلة فى محراب الدين والأدب.
«ألف ليلة وليلة» واحد من الأعمال الإنسانية التى خلبت لب الثقافة الإنسانية، وهو واحد من الأعمال التى تعددت أنواع طبعاته، وما من محقق أو مترجم إلا وأضاف إليه أو حذف منه، فماذا عمن قاموا بجمعه أو روايته فى العصور التى لم تكن تحفل إلا بالشفاهية والاعتماد على الذهن، ورغم ذلك فما من طبعة تصدر منه إلا ويمكن القول إنها نفدت قبل صدورها، لكن البعض ما زال فى القاهرة يراه مُحرّمًا وإن طباعته إهدار للمال العام.
فضيلة الشيخ محمد قطة العدوى لم يدر بخلده منذ ١٧٠ عامًا عندما شرع فى تحقيق كتاب «ألف ليلة وليلة» أنه سوف يُتهم بإشاعة الفاحشـة بين الناس، كان الشيخ محمد قطة العدوى ممن يحملون لقب «العلاّمة»، هذا العالم اللغوى والشيخ الأزهرى قد أفنى أربعين عامًا فى تحقيق قائمة هائلة من أمهات كتب التراث العربى الإسلامى. لا شك فى أن العلامة الشيخ ما كان ليخطر فى باله أن تحقيق كتاب تراثى يقود إلى قائمة الاتهامات الواردة فى بلاغ «محامون بلا قيود».. لم يتهم أحد الشيخ قطة العدوى بإشاعة الفاحشة قبل ١٧٠ عامًا، وإذا بهؤلاء المحامين يتهمونه بها الآن، هو والمؤلّف المرجعى الذى حقّقه.
وتاريخيًا يعد محقق نسخة «ألف ليلة وليلة» هو العالم اللغوى الشيخ محمد قطة العدوى، حيث حقق قائمة كبيرة من أمهات كتب التراث، وتشمل «الفتوحات المكية» لابن عربى، و«رسائل الخوارزمى»، فضلًا عن أن الطبعة التى نشرتها سلسلة «الذخائر» مصورة عن طبعة «بولاق» الأولى التى صدرت سنة ١٨٣٥م، وسبقت هذه الطبعة المصرية طبعة «كلكتا» بالهند التى يرجع تاريخ إصدارها لسنة ١٨١٤م، وطبعة «برسلاو» فى ألمانيا فى ١٨٢٥م، لكن الطبعة المصرية صدرت كاملة بتصحيح الشيخ محمد قطة العدوى، وكان يعمل كبير المصححين والمراجعين فى مطبعة بولاق، لكن الحكم التاريخى الذى أصدرته دائرة الاستئناف بمحكمة شمال القاهرة فى ٣٠ يناير ١٩٨٦ وصف مَن ينظر إلى «الليالى»، باعتباره عملًا مخلًا بالآداب العامة، بأنه «مريض تافه، لا يُحسب له حساب عند تقييم تلك الأعمال الطيبة»، وقضت المحكمة بعدم المصادرة وبراءة الناشر. لكن ٢٥ عامًا على صدور هذا الحكم التاريخى، لم تمنع المشهد نفسه من أن يتكرر فى حق كتاب تراثى مجهول المؤلف، ترجع كتابته إلى القرن الرابع عشر الميلادى، واستوعب تحت عباءته العربية حكايات وأساطير من التاريخ الإنسانى، منها حكايات هندية وفارسية، واكتشف عظمته المستشرقون، وصار يُترجم إلى شتى لغات العالم منذ ترجمه إلى الفرنسية المستشرق «أنطوان جالان» عام ١٧٠٤، كما أصبح مادة ثرية لكتّاب الدراما والرواية والقصة القصيرة، خاصة قصص الأطفال، ومصدرًا لا ينفد لإلهام الفنانين بما يحتويه من مناخات أدبية أسطورية وقصص خرافية لشخصيات خيالية صارت علامات بارزة فى تاريخ القصص العربى والغربى.
قوبلت هذه الموجة الظلامية بموقف صلب من المثقفين المصريين، فأعلنوا فى ختام «مؤتمر أدباء مصر» عن رفضهم مصادرة الكتاب وأهابوا بالنائب العام حفظ البلاغ المقدم ضده، وقال بيان الكتاب: «إن إعادة نشر (ألف ليلة وليلة) أمر جدير بالترحيب لا المصادرة»، مشددًا على أهمية الحفاظ على التراث المصرى والعربى والإنسانى كما تركه الأجداد، وإن هذه القضية لا تخص الأدباء وحدهم، إنما تخص الأمة». اليوم يتعرض رجل العلم والدين للتشهير، إذ تدعو جماعة «محامون بلا قيود» على موقعها الإلكترونى إلى النظر فى «معتنق المؤلِّف الفكرى وانتمائه إلى الطرق الصوفية، ودور تلك الطرق وغيرها فى مساعدة من كان يحكم مصر ساعتها».. يقصدون بالمؤلّف والمصحِّح طبعًا، أما «من كان يحكم مصر ساعتها» فهو محمد على باشا، لكنّ الشيخ محمد قطة العدوى استمر يصحّح أمهات الكتب إلى ما بعد وفاة «محمد على» بسنوات! يبدو الرجوع إلى ذلك كله أمرًا عجيبًا، لكنّ الأغرب هو استناد بلاغ «محامون بلا قيود» إلى عدم جواز طبع «الخبث الذى يسمونه تراثًا بأموال هذا الشعب الذى يعانى من الفقر والمرض».
ويذكر د. جابر عصفور، فى مقال له بمجلة «العربى» الكويتية، أن قاضى الاستئناف الذى حكم بتبرئته فى كل مرة هو الأستاذ سيد محمود يوسف، ومعه القاضيان مصطفى مصطفى عطية، وعبدالله لبيب خلف، وهى الهيئة القضائية التى ينبغى تسجيل اسمها بأحرف من نور فى تاريخ الاستنارة المصرية المعاصرة، والواقع أنه لولا القاضى سيد محمود يوسف لكنّا حُرمنا من كتاب يزهو به التراث العربى والعالمى، وقامت بعد مصادرته ضجة هائلة- كما أوضحتُ- شملت العالمين العربى والأجنبى على السواء.
يبدو أن ثقافة القاضى سيد محمود يوسف العميقة هى التى هدته إلى معرفة قيمة المادة موضوع النزاع ومكانتها فى التراث، وأتصور أنه لا بد أن يكون قد تأثر بحملات الرأى العام التى تشكلت دفاعًا عن «ألف ليلة وليلة»، وضمت عددًا من رجال الدين المستنيرين فى مصر، فضلًا عن رجال الدين المسيحى الذين قام بتمثيلهم البابا شنودة نفسه، وقد دافع عن «ألف ليلة وليلة» دفاعًا يزيد فى أهميته وتأثيره على دفاع د. إبراهيم بيومى مدكور، رئيس مجمع اللغة العربية، ونائبه د. مهدى علاّم، وأضف إليهم كبار المثقفين والمبدعين من رسامى الكاريكاتير الذين لم يتخلفوا عن الركب، وتركوا لوحات ساخرة، خصوصًا ما خطته ريشة أو قلم الفنان المبدع صلاح جاهين.
ويضيف د. جابر عصفور، أن الكتاب تناوله فى العصر الحديث الكتّاب والمؤرخون من الشرق والغرب بالدراسة والتحليل، ولا تنسى اللجنة الإشارة إلى الدراسة المستفيضة التى وضعتها عن هذا الكتاب د. سهير القلماوى باعتبارها أولى الرسائل الجامعية التى قُدِّمت لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد نُشرت الرسالة فى كتاب بعنوان «ألف ليلة وليلة» أصدرته دار المعارف بمصر سنة ١٩٥٦، وتنقل اللجنة عن تقديم طه حسين للكتاب، وكان المشرف على الرسالة، قوله: «تأتى البراعة فى هذه الرسالة من موضوعها، فهو ألف ليلة وليلة، هذا الكتاب خلب عقول الأجيال فى الشرق والغرب قرونًا طوالًا، ونظر الشرق إليه على أنه متعة ولهو وتسلية، ولكن على أنه بعد ذلك خليق أن يكون موضوعًا صالحًا للبحث المنتج والدرس الخصيب».
توفى الله الأديب محمد قطة العدوى فى عام ١٨٦٢م.