رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف استهدفت الدولة الأمريكية العميقة الرئيس «ترامب»؟


ترامب أتى من خارج المؤسسات السياسية الأمريكية، واتخذ مواقف تختلف تمامًا عن مواقف وتوجهات السياسة الأمريكية التقليدية، كما أبدى ترددًا مخزيًا وتراجعًا عن القرارات يعكس افتقادًا للخبرة السياسية وخضوع قراراته لمعايير الصفقات التجارية، بغض النظر عما تفرضه احتياجات الأمن القومى الأمريكى، وذلك يفسر استقالة عشرات من كبار المسئولين والمساعدين فى إدارته بسبب الاختلاف فى الرأى، أبرزهم عدد من مستشارى الأمن القومى ووزراء الدفاع ومستشار الأمن الداخلى، بالإضافة إلى عدد من المبعوثين لمناطق الأزمات.. والحقيقة أن ذلك لم يكن مفاجئًا، فخلال المعركة الانتخابية لعام ٢٠١٦ أجمع خمسون مسئولًا بارزًا فى الأمن القومى من الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه، بينهم مدير CIA، على أنه غير مؤهل لقيادة البلاد، ويفتقر إلى الشخصية والقيم والخبرة اللازمة، وتنبأوا بكونه «الرئيس الأكثر استهتارًا فى التاريخ الأمريكى».. جون كارتر كبير الأطباء النفسيين بمستشفى جون هوبكنز، أكد «أنه يعانى مشكلات ذهنية خطيرة، ولا يصلح للرئاسة».
النجاح الاقتصادى غير المسبوق الذى حققه ترامب خلال الثلاث سنوات الأولى من رئاسته بتوفير ملايين فرص العمل ورفع الأجور لم يشفع له فى الانتخابات، لأن الانعكاسات الاقتصادية لفشله فى التعامل مع جائحة كورونا تدفع فى اتجاه ركود كبير قبل دخول ٢٠٢١، ما يفسر اهتمام حملته الانتخابية بإنجازات السياسة الخارجية بدلًا من الاقتصاد، خاصة ما يتعلق بنقل بعض السفارات الأجنبية إلى القدس أو إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، فى محاولة لإبراز قدرته على خدمة المصالح الإسرائيلية، سعيًا لضمان أصوات ونفوذ اللوبى الصهيونى.. لكن الطامة الكبرى وقعت عندما غلَّب مصلحته الذاتية فى الإيقاع بمنافسه الديمقراطى على مصالح الأمن القومى الأمريكى، ورفع السرية عن مراسلات هيلارى كلينتون، رغم أن وضعها كوزيرة سابقة للخارجية يعنى فضح واحد من أهم الصناديق السوداء للأحداث المعاصرة، وهو ما تفرض المصلحة الوطنية الأمريكية الحفاظ على سريته.
ترامب تعامل بشكل غير مسئول مع تفشى فيروس كورونا؛ مؤتمراته الصحفية اليومية استهدفت توظيف إجراءات مواجهة انتشار الوباء لدعم موقفه الانتخابى، لكن تدخلاته فى الأمور العلمية ومعارضته استخدام الكمامة ونصحه- غير الطبى- بتعاطى أدوية معينة والحقن بالمطهرات أثارت ضده الجهات العلمية وأربكت الرأى العام، حتى إن الجهات المعنية بإنتاج لقاح يقى من الوباء أحجمت عن إعلان بُشرى التوصل إليه إلا بعد انتهاء الانتخابات، حتى لا تُمكنه من توظيفه سياسيًا.. وكانت إصابته بالفيروس هى القشة التى قصمت ظهر البعير، فقد رفض فكرة العزل، وعاد بعد أقل من ثلاثة أيام للاختلاط وممارسة حياته الطبيعية بشكل غير مسئول، ورفض الدخول فى مناظرة جديدة مع بايدن من خلال تقنية «فيديو كونفرانس»، ما ولَّد إحساسًا عامًا بالدهشة من أنه إما يدّعى المرض ليكتسب عطف الجماهير ويؤكد مبررات استخفافه الدائم بخطورة الفيروس، أو أنه مستهتر لا يأبه بما يمكن أن يسببه من عدوى للآخرين. موقع «ذى أتلانتيك» كشف اعتزام ترامب، فى حالة الفوز بفترة حكم ثانية، تعزيز سيطرته على مؤسسات الحكومة وإخضاعها لإرادة الرئيس، وكذا نيته تحميل الدول الأوروبية مقابل عمليات الدفاع الاستراتيجى التى يوفرها لهم حلف «الناتو»، خاصة ما يتعلق بتكلفة التواجد العسكرى الأمريكى، مما يهدد بتفكك التحالف الغربى وإضعاف موقف أمريكا الدولى فى مواجهة روسيا والصين.
الدولة العميقة حاولت إسقاط ترامب مبكرًا، لكنه احتمى بسلطة منصبه الرئاسى وأغلبيته الجمهورية فى الكونجرس، فقامت بحشد الإعلام ضده بصورة غير مسبوقة فى التاريخ الأمريكى.. كل وسائل الإعلام الأمريكية، باستثناء «فوكس نيوز»، تضامنت ضد الرئيس وسعت لتشويه صورته بهدف إسقاطه، حتى وسائل التواصل الاجتماعى خضعت لتوجيه لجان خفية.. كل الرؤساء الديمقراطيين السابقين تم حشدهم ضده، بينما لم يلقَ ترامب الدعم الكافى من حزبه حتى اضطر إلى تمويل حملته الانتخابية من أمواله الخاصة.. حالة الاستقطاب التى استدعتها الدولة العميقة نشرت القلق بين فئات الشعب الأمريكى من وقوع مواجهات واسعة، ما يفسر بيع محلات تجارة الأسلحة قرابة ١٧ مليون قطعة على مدى الأشهر الماضية فقط، كما يوضح كيف أن جزءًا كبيرًا من تصويت الناخب الأمريكى كان تصويتًا عقابيًا ضد ترامب. كل الشواهد تؤكد وقوع عمليات تزوير استهدفت الإطاحة بترامب، فقد تم الكشف عن أن برنامج الحاسب الآلى الخاص بفرز وإحصاء الأصوات فى ولاية ميتشجان يقوم بإضافة الأصوات المؤيدة لترامب لصالح بايدن، ما فرض إجراء مراجعة عاجلة أسفرت عن التأكد من تكرار نفس الظاهرة فى ٣٣ مقاطعة أخرى!!. المحكمة الأمریكیة العلیا أمرت مجالس الانتخابات فى ولایة بنسلفانیا بفصل بطاقات الاقتراع التى وصلت بعد یوم الانتخابات، والعدّ بطریقة منفصلة عن حصیلة الأصوات الإجمالیة للولایة، لترك الباب مفتوحًا أمام إمكانیة استبعاد أوراق الاقتراع المتأخرة، لكن ذلك قد لا یؤثر على النتیجة النهائیة للانتخابات فى الولایات الحاسمة، لأن هزيمة ترامب تعكس إرادة الدولة العميقة. «بايدن» ابن المؤسسة السياسية الأمريكية، الذى قضى فيها ما يقرب من نصف قرنٍ، أصبح مرشح الدولة العميقة، رغم افتقاده لجاذبية وحيوية القيادة المعبرة عن دولة عظمى فى حجم الولايات المتحدة، وذلك بديلًا لترامب القادم من عالم المقاولات، فقد مثّل ولاية ديلاوير كسيناتور فى مجلس الشيوخ من عام ١٩٧٣ حتى ٢٠٠٩، تبوأ خلالها رئاسة اللجنة القضائية ثم لجنة العلاقات الخارجية، وترشح عن الحزب الديمقراطى للرئاسة عامى ١٩٨٨ و٢٠٠٨، لكنه فشل، قبل أن يختاره الرئيس أوباما نائبًا له من عام ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٧.
٧٧٪ من اليهود، و٧٠٪ من المسلمين والعرب الأمريكيين صوّتوا لـ«بايدن»، لأن سخاء ترامب فى عطائه لإسرائيل لم يترك فى جعبته ما يشجع اليهود على إعادة انتخابه، كما أنه أطلق رصاصة الرحمة على القضية الفلسطينية بإعلانه القدس عاصمة أبدية لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، وضم الجولان السورية، ناهيك عن استنزاف ثروات دول الخليج ما أثار غضب المسلمين والعرب.. ترامب تجنب التعليق على تصويت اليهود، لكنه اتهم المدير المسلم المسئول عن فرز الأصوات فى فلادلفيا بولاية بنسلفانيا بالعنصرية.

حالة القلق السائدة بشأن انعكاسات التغيُّر السياسى الأمريكى على مصر جديرة بالتناول، فمصر دولة كبيرة لا يليق بها القلق من تغيير الرئيس الأمريكى.. العلاقات المصرية الأمريكية فى شكلها الحديث تأسست فى عهد إدارة كارتر الديمقراطية.. إدارة ريجان الجمهورية اتسمت العلاقات معها بالخشونة والتوتر، بينما كانت العلاقة مع إدارة بوش الأب، وهى جمهورية أيضًا، متوافقة وشهدت تعاونًا استراتيجيًا خلال حرب تحرير الكويت.. إدارة كلينتون الديمقراطية شهدت فترة ذهبية، فى حين اتسمت فترة إدارة بوش الابن الجمهورية بالتنافر، وشهدت حربى أفغانستان والعراق، وتعرضت مصر خلالها للضغوط ومحاولات فاشلة للحصار الإقليمى، وخلال إدارة أوباما الديمقراطية بلغت العلاقات أدنى مستوياتها، وتعرضت المصالح الاستراتيجية الأمريكية للضرر، نتيجة موقفها من الإخوان والثورة الشعبية فى ٣٠ يونيو وقرارها بتعليق المساعدات العسكرية. إذن، الظروف السياسية فى المنطقة والعالم وطبيعة القضايا المثارة بين الدولتين هى التى تصنع الفارق وليس الحزب الذى ينتمى إليه الرئيس الأمريكى.. ربما لن نجد تعاطفًا أمريكيًا كبيرًا مع ملف سد النهضة مثلما كان الحال مع إدارة ترامب، لكننا ينبغى أن نراعى أن اهتمام ترامب بقضية السد كان ضمن السعى لدعم حملته الانتخابية بإنجازات خارجية على نحو ما تم بسياسات التطبيع العربى الإسرائيلى، لكنه عندما فشل نتيجة للتعنت الإثيوبى ورفض توقيع اتفاق واشنطن صدرت منه تصريحات أبعد ما تكون عن الرصانة والاتزان السياسى.
مصر أطاحت بالإخوان فى يوليو ٢٠١٣ إبان حكم أوباما، وقت أن كان بايدن نائبًا للرئيس، وأجهضت موجة الخريف العربى بالمنطقة، والحظر على تصدير الأسلحة وقطع الغيار الأمريكية آنذاك لم يفت فى عضد مصر ولم يدفعها للتراجع عن مواقفها من الإخوان، فما بالك وقد تنوعت مصادر تسليحها الاستراتيجى من روسيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والصين، ولم يعد حكرًا على السلاح الأمريكى.. ولنتذكر أن العلاقة الطيبة التى ربطت الرئيس ترامب بمصر لم تمنعه من التهديد بقطع المساعدات الاقتصادية عن الدول المؤيدة لمشروع القرار المصرى، الذى تم تقديمه إلى مجلس الأمن الدولى، ويعتبر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس إجراء غير شرعى، رغم ذلك أكمل مشروع القرار طريقه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وحاز أغلبيتها.. إذن، هناك فارق كبير بين أن يتعامل الديمقراطيون مع الإخوان وهم يحكمون مصر، وبين أن يتعامل بايدن معهم وهم فلول تنظيم سحقته حركة شعبية عارمة لم يعرف التاريخ مثل زخمها.. المواقف السياسية انعكاس للظروف المحيطة التى تغيرت كثيرًا، وأضحت مصر مركز الثقل الرئيسى بالمنطقة على نحو يفرض إطارًا من التقدير والاحترام، سواء كان حاكم البيت الأبيض جمهوريًا أو ديمقراطيًا، ترامب، أو بايدن.
وأخيرًا، فإن الديمقراطيين أنفسهم لا يمكن أن يعودوا إلى سياسات الماضى، فقد أدركوا أنهم عندما طبقوا سياسة «الفوضى الخلاقة» وفككوا دول المنطقة وأسقطوا أنظمتها لم يحققوا أى فوائد اقتصادية أو سياسية، بل فتحوا الباب على مصراعيه لتواجد استراتيجى روسى غير مسبوق وتمدد إيرانى مخيف، بينما تتداعى مصالحهم فى المنطقة تباعًا.. والحقيقة أن موقف أمريكا من الإخوان لم تعد تحدده رؤية الجمهوريين أو الديمقراطيين، بل تحدده أجهزة الأمن الأمريكية، لأن كسر العمود الفقرى للتنظيم فى يونيو ٢٠١٣ جعل من المستحيل توظيفه سياسيًا، لكن عناصره أصبحت ثروة تسعى أجهزة الأمن فى العالم لتعزيز شبكاتها بها.. رسائل البريد الإلكترونى الخاصة بهيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة، كشفت عن أن قيادات التنظيم إبان فترة حكمه لمصر كانوا يهرولون للتعاون مع الخارج، تثبيتًا لمصالحهم فى الداخل المصرى.. فكيف نتصور ألا تهرول عليهم أجهزة الأمن الدولية لتوظيفهم كعملاء؟!