رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وكان لكنيسة الإسكندرية السبق «1-2»


على مدى التاريخ المصرى قدمت مصر- فى جميع المجالات- نماذج طيبة، فكانت لها الريادة الحقيقية والكلمة العليا. ومن بين تلك النماذج التى تدل على عظمة مصر ذلك النموذج الرائع الكامن فى تاريخ وتقاليد الكنيسة المصرية. بداية المسيحية فى مصر بصفة عامة والإسكندرية بصفة خاصة تعود إلى القديس مرقس الذى حضر إلى مدينة الإسكندرية حوالى عام ٦٤م قادمًا من مدينة «قورينه» عاصمة إقليم برقة الليبية.
أخذ القديس مرقس يتجول فى شوارع وأحياء الإسكندرية الوطنية الضيقة التى يسكنها إسكندريون من الطبقة الوسطى. انتشرت المسيحية فى طول البلاد وعرضها، حتى أصبحت شبه مستقرة على أرض مصر أثناء القرن الثانى الميلادى، فى الوقت الذى كان مسيحيو الأقطار الأخرى قلائل يمارسون العقيدة المسيحية خفية فى غياهب الكهوف والمغارات وشقوق الأرض. بعدها تأصلت المسيحية فى نفوس المصريين عامة، وأخذت مكانتها، ثابتة الدعائم، فى صدور الشعب السكندرى أثناء فترة العصر الرومانى، وشيئًا فشيئًا أصبحت مدينة الإسكندرية أول مركز مُنّظم لأول كنيسة فى العالم مكتملة الصفوف والرتب الكهنوتية بدرجاتها المختلفة «أسقف- قسيس- شماس»، كما أصبحت مركز الفكر المسيحى فى العالم المتمدين كله. فالمدرسة اللاهوتية- التى أسسها القديس مرقس- التى كان من عمدها العلاّمة «أكليمنضس» السكندرى، والعلاّمة «أوريجانوس»، الفيلسوف الأفلوطينى، حلت فى أواخر القرن الثانى الميلادى محل الأكاديمية القديمة، موطن المُعلمين والفلاسفة من الإغريق، وأصبح كبار المفكرين المسيحيين يأتون إليها من كل أنحاء المسكونة للتزود بالمعرفة الرصينة التى كانت ثابتة بها. فى عصر الاضطهادات الذى جاء عقب انتشار الديانة المسيحية، والذى رفض فيه المسيحيون، بإصرار، مبدأ عبادة القياصرة، تحمل السكندريون بصفة خاصة والمصريون بصفة عامة صنوفًا مروعة من العذاب والقتل والتشريد، بلغت أشدها فى عهد الطاغية «دقلديانوس»، حتى إن القبط أرخوا تقويمهم القبطى بتاريخ الشهداء منذ اعتلاء هذا الطاغية عرش الإمبراطورية الرومانية سنة ٢٨٤م، فكان ذلك بمثابة نصب تذكارى أقامه الأقباط شهادة على شجاعتهم. ولكنهم ينتصرون فى النهاية عندما أصدر قسطنطين الكبير سنة ٣١٣م مرسوم ميلان بالتسامح الدينى. انتصار المسيحية الأرثوذكسية السكندرية على الوثنية والهرطقة الأريوسية أحاط المدينة بهالة من النور والمجد، وأصبحت فى نظر الخاص والعام تُعتبر العاصمة الروحية للعالم المسيحى، فكان هذا من أسباب الحسد والحقد اللذين أضمرتهما بيزنطة لها. وبيزنطة هى مركز الإمبراطورية ومصدر السلطان السياسى فى العالم. لذلك لم يستسغ البيزنطيون تسامى كنيسة الإسكندرية على الكنيسة البيزنطية وبلوغها مركز الزعامة والقيادة الدينية من العالم الرومانى، فى حين أن الإسكندرية ومصر كلها ما هى إلا ولاية تابعة للقسطنطينية، فنشأ عن ذلك صراع مذهبى بين الإسكندرية والقسطنطينية. المصريون من جانب يحرصون على وطنيتهم واستقلالهم، والإغريق من جانب آخر يعملون على مقاومة المصريين بكل الوسائل. فريق يتبعون بطريركهم المُنتخب من بين الآباء الرهبان- طبقًا لقوانين مجمع نيقية التى كان لكنيسة الإسكندرية الدور الريادى فى صياغتها وإقرارها بل أعلنت بكل وضوح «أن البطريرك هو أسقف مدينة كرسيه»، فلا يأخذ أحد لقب البطريرك إلا أسقف الإسكندرية فقط- رغم تحذيرات القسطنطينية، ومجموعة قليلة من الإغريق المقيمين بالإسكندرية وبعض المدن الأخرى يعتمد عليهم الإمبراطور فى تعيين بطريرك ملكانى تابع له.
صارت كنيسة الإسكندرية مهد القومية المصرية، فبميلاد القومية المصرية فى حضن كنيسة الإسكندرية، أخذت هذه النزعة الاستقلالية المصرية أشكالًا متعددة منها: «١» العمل على تطهير لغة البلاد القبطية من الألفاظ اليونانية الدخيلة، «٢» إحياء الأدب الشعبى القبطى، «٣» البحث وتحرير الفكر المصرى من النفوذ الإغريقى. وقد كان من أكبر الدعاة لحركة القومية المصرية القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين «٣٣٣- ٤٥١م»، حتى إن الكنيسة اليونانية حتى وقتنا الحاضر تحمل عداوة شديدة نحو كل من الأنبا شنودة، رئيس المتوحدين، والبابا ديسقوروس، «٤٤٤- ٤٥٤م» البطريرك ٢٥، الذى تُلقبه الكنيسة القبطية بلقب «بطل الأرثوذكسية» لدفاعه المستميت عن الأمانة الأرثوذكسية وبسبب أمانته الشديدة نال الكثير من العذابات والآلامات والنفى والتشريد وكسر الأسنان.
من المؤسف أن يطل علينا أحد الأساقفة الحاليين بأن القديس مرقس لم يكن «كارز» الديار المصرية بل «كارز» إفريقيا!! وهذه مخالفة تاريخية وتدل على عدم فهم ودراية بتاريخ الكنيسة القبطية. أى نعم امتدت الكرازة المرقسية فيما بعد إلى إفريقيا كما امتدت إلى أمريكا وكندا وأستراليا. فهل كان القديس مرقس «كارز» فى أمريكا وكندا وأستراليا؟ عجبى لهذا الخلط التاريخى المخالف للواقع. القديس مرقس عمل بين المصريين وبالأخص بين السكندريين.
وعلى مدى العصور تحمل كنيسة الإسكندرية صفة «القومية» فلم تكن فى يوم من الأيام تابعة لأى كنيسة أخرى. حدث فى حبرية البابا كيرلس الخامس «١٨٧٤- ١٩٢٧» البطريرك ١١٢، أن بدأ غزو الإرساليات الأجنبية للكنائس القبطية عن طريق الصعيد، فشدد البابا كيرلس على التعليم الأرثوذكسى النقى فى الكنائس القبطية لئلا ينخدع الأقباط فى التعاليم الغربية، وكان ساعده الأيمن فى ذلك شماسه الخاص رئيس الشمامسة حبيب جرجس. وحدث فى فترة حبرية البابا كيرلس السادس «١٩٥٩- ١٩٧١» البطريرك ١١٦، أن ثار الخلاف على موعد عيد القيامة. لكن الكنيسة القبطية أعلنت عن تمسكها بقرارات مجمع نيقية وعدم مخالفته، مما اضطر البابا بولس السادس، بابا الفاتيكان، إلى أن يتصل بالكاردينال أسطفانوس، بطريرك الكنيسة الكاثوليكية بمصر، وأخبره بأن تتبع الكنيسة الكاثوليكية بمصر الاحتفال بعيد القيامة مع الكنيسة القبطية الأم وأن تتلى الصلوات فى الكنائس الكاثوليكية بمصر بنفس صلوات وقداسات الكنيسة القبطية. وما زالت الكنيسة الكاثوليكية بمصر تتبع نفس النظام الذى استقرت عليه منذ فترة الستينيات. وخرجت كنيسة الإسكندرية شامخة الرأس، إذ كان على رأسها بطريرك يدرك المكانة الحقيقية للكنيسة وتاريخها وتقاليدها وجهاد وتعب بابواتها، كان بطريركًا ينظر إلى كرامة الكرسى المرقسى وصدق انتمائه لمصر.
وهكذا على مدى العصور حافظت الكنيسة على استقلالها ووطنيتها وقوانينها وطقوسها وتقاليدها حتى صارت علامة مميزة بين كنائس العالم ولها رأيها المسموع بل الريادة الحقيقية فى المحافل الدولية والكنسية.
نستكمل فى الحلقة القادمة الدور الريادى لكنيسة الإسكندرية.