رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرواب وأوشحة فى عالم الأدب «2-2»


ما الأدب القضائى الرفيع؟.. هو القانون حينما يختلط بالأدب فيخرج علينا سامقًا شامخًا يطاول عنان السماء، وأرجو ألا يتبادر إلى الأذهان أننى سأكتب عن أولئك الأفذاذ الذين درسوا القانون ثم عملوا بالأدب فور تخرجهم، فهؤلاء لهم حديث آخر لأنهم أخرجوا لنا الروائع التى يصعب أن تتكرر، هل تعرفون لماذا يصعب أن تتكرر؟ لأنهم كانوا علامات اقتفى أثرهم من جاء بعدهم فأبدعوا، ولربما تفوقوا، ولكن يُحسب للأوائل أنهم كانوا الأوائل.
إننا نريد أن نكتب عن الذين جمعوا بين الأدب والقانون، فكانوا قضاة ومحامين، يكتبون الأحكام بعبارات سائغة قوية حصيفة، ليست فيها مغالاة الأدباء والشعراء، وليست منها العبارات القانونية الجافة والمصطلحات المرهقة للذهن، هؤلاء هم الذين يجب أن نكتب عنهم اليوم، فروادنا الذين ذكرتهم فى صدر المقال اهتم بهم وبإنتاجهم تاريخنا الأدبى، أما من أعنيهم فبعضهم طواه النسيان، ولعل أحد الباحثين فى مستقبل الأيام يقرأ فى «الهلال» عنهم فيبحث عن آثارهم ويُجلى الغموض عن أعمالهم.
من هؤلاء كان آل جمعة، وآل جمعة هم محمد لطفى جمعة الأب، وابناه رابح لطفى جمعة وعبدالمعين لطفى جمعة، ومن حُسن الأدب أن نبدأ بالحديث عن الأب «محمد لطفى جمعة»، الأديب والمحامى والفيلسوف والمترجم، الذى كان عضوًا بالمجمع العربى بدمشق وهو يماثل مجمع اللغة العربية فى مصر، وكان يجيد مع العربية الإنجليزية والفرنسية واللاتينية والإيطالية، وسوف تتعجب مثلى عندما تعرف أنه تعلم الهيروغليفية.
ومن تصاريف القدر أنه ولد فى الإسكندرية فى حى كوم الدكة، وكان أهله جيرانًا لأهل سيد درويش، فأرضعته أم سيد درويش فأصبح أخًا له فى الرضاعة، وحينما بلغ مبلغ الرجال حصل على ليسانس الحقوق من باريس، ثم عاد ليُدَرِسَ القانون الجنائى فى الجامعة المصرية، ثم عمل فى الصحافة وظل يكتب مقالات نارية ضد الاحتلال الإنجليزى، ثم قام عام ١٩١٥ بقيد نفسه فى نقابة المحامين واشتغل بالمحاماة، وكان خطيبًا بارعًا فى قاعات المحاكم يُشنف الآذان بمرافعاته وصوته الذهبى وكأنه مطرب وصل إلى أعلى درجات السلطنة.
فكنت تسمع من رواد قاعة الجنايات الآهات حينما يرتفع صوته فيبلغ بلغة الموسيقى أعلى درجات «الجواب»، ثم إذا به يخفض صوته فيصل إلى أدنى درجات «القرار»، ومع قدرته على تنويع طبقات صوته كان مفوهًا، يعرف متى يبدأ ومتى ينتهى، وكما يقولون «كان ملء السمع والبصر» ترافع فى معظم القضايا الوطنية الشهيرة، فقدم لنا وللتاريخ القضائى مرافعات قانونية ممزوجة ببلاغة ومنطق وفلسفة، إذ كان بارعًا فى علوم الفلسفة، فكان يضع حُجته فتعجز النيابة عن الرد عليه، وبعد المرافعة كان يجلس فى استراحة المحامين فيشرح لمن يجلسون معه ويتتلمذون على يديه ما الرد الذى كان يجب على النيابة أن ترد به عليه، ثم يستطرد ويشرح لهم الرد الذى كان سيقوله للمحكمة على رد النيابة، وهكذا دواليك، الأمر الذى يشبه ما برع فيه علماء «الكلام» فى العصر العباسى.
وكانت من القضايا الشهيرة التى ترافع فيها قضية مقتل «أمين عثمان» حيث ترافع فيها عن المتهم «أنور السادات» وما يعنينا هنا أن مرافعة محمد لطفى جمعة عن السادات كانت من المرافعات التى جمعت بين التأصيل القانونى السديد، والبلاغة الأدبية الرفيعة، والقدرة الطاغية على التأثير، ولعلنا نستطيع معرفة المدى الذى وصل إليه لطفى جمعة حينما نعرف أنه تتلمذ على يد الشيخ طنطاوى جوهرى، أحد رموز التنوير فى القرن العشرين، فدرس على يديه الفلسفة الإسلامية، وكان قد تتلمذ أيضًا على يد الشيخ محمد عبده، وشغف بالتصوف ورجاله، فكتب كتابه الأشهر «تاريخ فلسفة الإسلام فى المشرق والمغرب»، ثم كتب عشرات الكتب فى الفلسفة الإسلامية والتاريخ الإسلامى، ثم كان أن توفاه الله عام ١٩٥٣ بعد أن اعتزل ووقع تحت وطأة الاكتئاب.
وإذا كان المثل يقول: هذا الشبل من ذاك الأسد، فلطفى جمعة كان له شبلان، عبدالمعين لطفى جمعة ورابح لطفى جمعة، أما عن رابح فقد شغف بالشعر وولج فى دروبه مذ كان صغيرًا، ومع ذلك لم يدخل إلى كليات الآداب ولكنه كان كأبيه، دخل الحقوق ومنها للنيابة العامة ثم للقضاء، والقاضى الأديب قد لا تقرأ الأدب الذى يخطه إلا إذا كنت شغوفًا بالأدب القضائى فيقع فى يديك بعض أسباب أحكامه فتعرف مبلغ علمه القانونى وعلو بيانه الأدبى، وقد كان المستشار رابح من هذا النوع، وقد تدرج فى مناصب القضاء إلى أن أصبح نائبًا لرئيس محكمة النقض المصرية، ثم نائبًا لرئيس المحكمة الدستورية، ثم مستشارًا فى محكمة القيم العليا.
وقد كان المستشار رابح من أبدع من يكتبون حيثيات الأحكام، فتأتى بديعة خلابة بشكل غير تقليدى، فلا تخال نفسك تقرأ حكمًا ولكن تقرأ حياة، فيها مقدمة وحبكة ونهاية، كأنها رواية من روايات الحياة، ثم إذا به يدخل بك فى القانون، فيضع تعبيرات جديدة لم تألفها الأحكام القضائية ولكن تألفها العيون والأسماع، وكم صاغ من عبارات بليغة فى أحكام كتبها وهو فى المحكمة الدستورية فأصبح باقى أحكام الدستورية يأتى على منوال عباراته الأدبية البليغة، وستعرف لماذا كان المستشار رابح متميزًا فى صياغة الأحكام، بارعًا فى استخدام اللغة الأدبية حينما تقرأ أشعاره، فله أربعة دواوين هى «صديقة القمر» و«أغانى الشباك» و«بلادى» و«خطب الليل»، وقد حصل المستشار رابح على عدة جوائز مصرية وعربية فى مجال الشعر، ثم توفاه الله عام ٢٠٠٣.
نأتى للأخ الآخر عبدالمعين لطفى جمعة، وهو مثل أخيه دخل كلية الحقوق عام ١٩٥١ ثم تخرج فيها عام ١٩٥٥ وبعد تخرجه حصل على درجة الماجستير فى القانون الجنائى، ثم عمل فى بداية حياته بالمحاماة، ثم التحق بقلم قضايا الحكومة إلى أن اتجه للنيابة العامة وتدرج فى وظيفته حتى وصل إلى درجة مستشار بمحكمة النقض، ويبدو أن شيطان الشعر قد استولى على هذه الأسرة بأكملها، فمع إتقان المستشار عبدالمعين اللغة العربية وضلوعه فيها كان يحفظ آلاف الأبيات من الشعر العربى فى كل عصوره، من العصر الجاهلى إلى صدر الإسلام ثم العصر العباسى وما بعده وصولًا إلى مدارس الشعر فى العصر الحديث، ورغم أنه أخرج للمكتبة القانونية عدة موسوعات قانونية إلا أنه كان شحيحًا فى نشر شعره، ضنينًا على طباعة دواوينه، ولعله أراد ألا يظهر كمنافس لأخيه رابح فآثر أن ينزوى بشعره، ومع ذلك نعرف له بعض الأشعار التى تدل على تمكنه وشاعريته ووطنيته، وفى هدوء يموت المستشار عبدالمعين لطفى جمعة عام ١٩٨٨ ولكن لم تمت أحكامه ولا أشعاره ولا كتبه.
هيا بنا الآن ندخل إلى عصرنا الأخير وأيامنا الفائتة، لنتعرف على لون لم نعرفه إلا حديثًا على يد المستشار الراحل جمال عبدالحليم حسن الذى كان رئيسًا لمحكمة جنايات القاهرة، كان المستشار جمال عبدالحليم يجيد الفرنسية إجادة تامة، كما كان يجيد العربية ويحفظ آلاف الأبيات من الشعر، فضلًا عن حفظه القرآن الكريم، وكان يكتب الشعر بالفرنسية والعربية، أما اللون الأدبى الذى انفرد به وابتدعه المستشار عبدالحليم فهو أنه كان قبل أن ينطق الحكم فى القضايا الجنائية الكبيرة يقف ويلقى خُطبة عن الحكم، وتلك الخطبة ليست جزءًا من الحكم، ولكنها مقدمة له لا يتم تدوينها فيه، وفى خطبته كان عبدالحليم يقدم لنا سيمفونية أدبية وقانونية بليغة، ولشغفه بالأدب والفكر كان عبدالحليم يعقد صالونًا أدبيًا فى بيته فى مصر الجديدة كل يوم أربعاء يحضر فيه رموز المجتمع الثقافى والفكرى والأدبى والفنى والقانونى من مصر وخارج مصر، وفى إدارته جلسات المحاكمة تجده أحيانًا وقد خلع وشاح القضاء ليصبح معلمًا أو مربيًا.
ففى إحدى قضايا تعاطى المخدرات البسيطة التى تكون فيها الأحكام مخففة كان المتهم طالبًا فى كلية دار العلوم، وكان المحامى قد أبدى دفاعًا يترتب عليه الحكم بالبراءة لأسباب إجرائية، وظهر أن المستشار عبدالحليم سيعطى للمتهم براءة ولكنه أراد أن يعلمه ويشد أذنه فقال له: سأعطيك براءة لو قلت لى الآن قصيدة أراك عصى الدمع شيمتك الصبر، فارتج على المتهم طالب دار العلوم ولم يستطع، فقال له المستشار: سأعطيك البراءة لو قلت لى من الذى كتبها، فارتج على المتهم أيضًا، فسأله: ألست طالبًا فى دار العلوم؟ فقال الطالب: نعم، فقال عبدالحليم أخطأت، فتعجب الطالب وقال: لا والله أنا طالب فى دار العلوم، فقال المستشار عبدالحليم: لست أقصد هذا، ولكننى أقصد أن إجابتك كانت يجب أن تكون: «بلى» وليست «نعم» فبهت الطالب، فابتسم المستشار وقال له: سأعطيك براءة لو قرأت سورة الإخلاص، فتحير الطالب أيضًا، فنهره المستشار وقال: ألا تعرف سورة الإخلاص، ألا تعرف قل هو الله أحد.. فأكملها الطالب وقال: لم أكن أعرف أن اسمها الإخلاص، فقام المستشار بتأجيل القضية شهرًا وقال للمتهم: ستأتى الشهر المقبل وقد حفظت أراك عصى الدمع.