رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرواب وأوشحة فى عالم الأدب «١»


ونحن نعيشُ فى تلك الحالةِ الثقافيةِ والفكرية والقانونية التى نعرفها جميعًا، تلك الحالة التى ننظر إليها بأسى وحسرة، فإننا يجب أن نعودَ إلى الوراء قليلًا، لن نعود إلى أغوارٍ سحيقة من تاريخنا، ولكننا سنعود إلى الماضى القريب، وقت أن بدأت بلادُنا تأخذ طريقها فى الحضارة الإنسانية الحديثة، ولا تظن أن نهايات القرن التاسع عشر وبِدايات القرن العشرين هى من الماضى البعيد، ولكنها بالنسبة لتاريخ مصر المُوغل فى القدم تُعتبر لا شىء، وكأننا كنا بالأمس القريب.
وفى هذا الأمس القريب وُلِدت رموز النهضة الأدبية والقانونية فى بلادنا، جاء إلى الحياة من يبعثون فيها الحياة، هبط من عَلياء الخالق خلقٌ احتوتهم مصر بلا ضيق، واتسعت بهم ضفاف النيل بلا تضييق، ففى نهايات القرن التاسع عشر ولد إبراهيم الهلباوى ومحمد لطفى جمعة وعبدالعزيز فهمى ومحمد كامل مرسى وعبدالرزاق السنهورى ومحمد حسين هيكل وعبدالرحمن الرافعى ومكرم عبيد وغيرهم وغيرهم، ومع القرن العشرين توالت هدايا الله على مصر، فأنجبت مصر محمد عبدالله وعبدالمعين لطفى جمعة ورابح لطفى جمعة وشوكت التونى ومحمد كامل حسن، ثم استقبلت مصر بعد ذلك محمد كمال عبدالعزيز وإبراهيم حلمى إبراهيم وسعيد العشماوى وعاطف الحسينى وعوض المر وجمال عبدالحليم حسن، وغيرهم وغيرهم.
نحن هنا لا نضع حصرًا، وإن وسع لنا المقام لأطنبنا وملأنا الصفحات بأسماء أدباء عملوا بالقانون، ورجال قانون عملوا بالأدب، وفى كلتا الحالتين جمعوا بين الأدب والقانون فوضعوا لنا علمًا وفنًا وأدبًا قد لا يكون فى وسع أجيالنا الحالية أن تقترب منه، بل، للأسف، فإننا ننظر حولنا فنجد الدائرة تضيق بعد أن كانت أكثر الدوائر اتساعًا، ومع ذلك فإننا لن نغفل أبدًا أدب المرافعات القضائية، فهذا نوع من الأدب الفريد، وهو أيضًا من الأدب الضائع، لأن أحدًا لم يفكر فى تسجيله لتسمعه الأجيال الجديدة، نعم عرفنا إبراهيم الهلباوى عندما قرأنا فى التاريخ أنه كان المحامى الذى ترافع ضد الفلاحين فى قضية دنشواى، كان هو المدعى العمومى وقتها، ولأن هذه القضية صنعت جرحًا فى الضمير المصرى لم يندمل أبدًا، لذلك أطلق الشعراء والسياسيون وغيرهم على الهلباوى لقب «جلاد دنشواى».. هجاه أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، ودبج الصحفيون المقالات فى تجريحه واتهامه بالخيانة، ولكن دنشواى غطت على تاريخ آخر للهلباوى حق لنا أن نكتبه وحق للناس أن تقرأه، نعم نحن الأحياء لم نسمع المرافعات البليغة لإبراهيم الهلباوى، الذى كان من أبلغ المحامين قاطبة، لم تصل إلينا مرافعاته القانونية ذات الإطار الأدبى البليغ، وهو ذلك المحامى الخطيب صاحب الأداء المسرحى الذى طبقت شهرته الآفاق، وفى مرافعاته ابتكر ألفاظًا وجملًا وعبارات سار عليها المحامون من بعده، وفيها أمسك بقدراته الخطابية المذهلة بتلابيب مشاعر القضاة، وتحكم فى قيادها، فدغدغ هذه المشاعر وأثَّر فيها بل تستطيعون القول إنه امتلكها.
نحن الآن لا نكتب تاريخًا، وإنما ننقل عنهم ما قدموه، ولقد كان النقل عن الهلباوى هو المشقة بعينها، لأنه لم يسمع أحد العائشين بيننا مرافعاته، حتى وإن فرض وكان أحد العائشين بيننا ممن امتد بهم العمر قد سمع مرافعة له فحكاها لنا فإنه لن يستطيع أن ينقل المرافعة نفسها، كل ما يستطيعه هو أن يقدمها لنا مكتوبة، ولنا أن نأسف لأن أجهزة التسجيل وكاميرات التصوير السينمائى قد عجزت عن تصوير مرافعاته رغم أن هذه الأجهزة كانت قد دخلت إلى مصر فى أوائل القرن العشرين، وما عجزت الأجهزة عن تصويرها وتسجيلها إلا لأنه لم يكن من المعتاد فى هذا الزمن تسجيل وتصوير المرافعات فى قاعات المحاكم.
هذا هو الهلباوى، فمن هو قرينه فى القضاء والمحاماة؟ قرينه هو عبدالعزيز فهمى باشا، الذى أصبح نقيبًا للمحامين بعد الهلباوى، وبعد عشرين عامًا إذا به يصبح أول رئيس لمحكمة النقض، ثم يمتد به الزمن فيصبح عضوًا فى مجمع اللغة العربية، وكان عبدالعزيز فهمى هو أحد الأوائل الذين صاغوا الأحكام بلغة أدبية بليغة لدرجة أن نصوص أحكامه كان يتم تدريسها فى مقررات البلاغة فى المدارس الثانوية تحت عنوان: «نماذج من الأدب القضائى الرفيع» ويبدو أن إتقانه الشعر العربى الفصيح أثَّر فى لغته القضائية فجعلها شفيفة رقيقة عذبة، تقرأ الحكم الذى يكتبه فكأنك تقرأ منظومة نثرية مرهفة، ومع ذلك ورغم هيامه بالشعر إلا أنه لم يجنح للمحسنات البديعية فى أحكامه أو التصنع والتكلف فى نظم الحيثيات، ولكى نعرف مبلغ هذا الرجل فى الأدب القضائى يجب أن نستمع له وهو يلقى خطابه فى افتتاح محكمة النقض عام ١٩٣١، فها هو يقول فى عبارات بليغة رصينة: «وإن سرورى يا حضرات القضاة وافتخارى بكم ليس يعدله إلا إعجابى وافتخارى بحضرات إخوانى المحامين الذين أعتبرهم كما تعتبرونهم أنتم عماد القضاء وسناده، أليس عملهم هو غذاء القضاء الذى يحييه؟ ولئن كان على القضاة مشقة فى البحث للمقارنة والمُفاضلة والترجيح فإن على المحامين مشقة كبرى فى البحث للإبداع والإبداء والتأسيس. وليت شعرى أى المشقتين أبلغ عناءً وأشدُ نصبًا؟ لا شك أن عناء المحامين فى عملهم عناء بالغ جدًا لا يقل البتة عن عناء القضاة فى عملهم، بل اسمحوا لى أن أقول إن عناء المحامى- ولا يُنبئك مثل خبير- أشد فى أحوال كثيرة من عناء القاضى، لأن المُبدع غير المُرجح. هذا يا إخوانى المحامين نظرنا إليكم، ورجاؤنا فيكم أن تكونوا دائمًا عند حسن الظن بكم. وأن تقديرنا لمجهوداتكم الشاقة جعلنا جميعًا، نحن القضاة، نأخذ على أنفسنا أن نيسر عليكم سبيل السير فى عملكم، وإن أى فرصة تمكننا من تيسير السير عليكم لا نتركها إلا انتهزناها فى حدود القانون ومصلحة المتقاضين.
ذلك بأن هذا التيسير عليكم تيسير على القضاة أيضًا، إذ القاضى قد تشغله الفكرة القانونية فيبيت لها ليالى موخوزًا مؤرقًا على مثل شوك القتاد، يتمنى لو يجد من يعينه على حل مشكلتها، وإن له لخير معين فى المحامى المكمل الذى لا يخلط بين واجب مهنته الشريفة وبين نزوات الهوى ونزعاته، ولا يشوب عمله بما ليس من شأنه، إذا كان هذا ظننا بكم ورجاءنا فيكم فأرجو أن تكونوا دائمًا عند حسن الظن بكم، وتقدروا تلك المسئولية التى عليكم، كما يقدر القضاة مسئوليتهم».
ولنا الآن أن نترك عبدالعزيز فهمى باشا يستريح فى مرقده، لندخل إلى رحاب أسطورة لا مثيل لها من فرط نبوغه، هذا هو مصطفى مرعى الذى أطلقوا عليه شيخ القضاة، ثم أطلقوا عليه شيخ المحامين، كان مولده فى بداية القرن العشرين، وتخرج فى كلية الحقوق عام ١٩٢٣، ثم عمل بالمحاماة بمكتب واحد من أشهر محامى الإسكندرية فى ذاك الوقت، ثم تزوج من كريمته، التى ناضلت معه حتى آخر عمره، وقد عمل مصطفى مرعى تسع سنوات بالمحاماة حتى عُيّن قاضيًا عام ١٩٣٢، وتولى دائرة الأمور المستعجلة بالإسكندرية، وظل قاضيًا حتى عاد إلى المحاماة عام ١٩٣٦. أى بعد أربع سنوات من تركه لها، وفى عام ١٩٣٩ عُيّن «أفوكاتو عمومى» ثم مستشارًا بمحكمة الاستئناف عام ١٩٤١ومستشارًا بمحكمة النقض عام ١٩٤٦ ثم عُيّن رئيسًا لقضايا الحكومة حتى آخر عام ١٩٤٧، حيث اُختير وزير دولة فى حكومة إبراهيم عبدالهادى، وفى ٢٩٥١٩٥٠- قدم استجوابه الشهير فى مجلس الشيوخ عن الأسلحة الفاسدة، وكان قد عاد إلى المهنة التى أحبها وعشقها، مهنة المحاماة، وقد كان مصطفى مرعى، بجوار ذاك، عضوًا بمجمع اللغة العربية منذ عام ١٩٧٣م قد توفاه الله فى ٧١١١٩٨٧.
هذه هى السيرة، فأين المسيرة؟ وأين نتاج المسيرة؟ كحظ المحامى المغبون كان مصطفى مرعى، لذلك لن نعرف عنه إلا ما يُروى عنه، إذ لربما لن تتاح لنا فرصة قراءة أحكامه القضائية ولغته الفريدة فيها، ولن نتمكن من الوقوف عند مرافعاته القانونية المضمخة بالأدب الرفيع، فالمرافعات كما قلنا من قبل تضيع فى قاعات المحاكم، يظل من سمعها يرددها حينًا حتى تتلاشى من ذاكرته، وقد كان لمصطفى مرعى مرافعات أقامت مصر كلها ولم تقعدها، كان وهو يترافع متدفقًا بهدوء، منفعلًا بشموخ، يجبرك على أن تشفق على المتهم، ثم يزداد انفعاله وهو يحرك يديه بقوة فتشفق أنت عليه، ترافع هذا الرجل فى معظم القضايا الوطنية والسياسية والجنائية الكبيرة، ثم فى آخر مرافعة له قبل أن يعتزل المحاماة استطرد فى شرح دفع من الدفوع القانونية، فأشفق عليه رئيس المحكمة من الإطالة، فقال له، يريد منه أن ينتهى من المرافعة،: «ما هى طلباتك يا مصطفى بك؟» فنظر إليه مصطفى مرعى مُحيرًا، ثم ألقى بالقلم الذى كان فى يده وقال للمحكمة: «اليوم الذى يُقال فيه لمصطفى مرعى ما هى طلباتك هو اليوم الذى يجب أن يعتزل المحاماة» فعاجله القاضى قائلًا: «نحن لا نقصد أبدًا أنك أطلت ولكن وجدنا التعب باديًا عليك وعرفنا مقصدك من دفعك القانونى فطلبنا منك أن تُقدم لنا طلباتك»، فقال مرعى: «معنى ما تقول أننى لم أعرف متى يجب أن أنتهى من مرافعتى، وهذه هى نهاية المحامى»، واعتزل مرعى من بعدها ثم توفاه الله عام ١٩٨٧ وكان من أبرز مؤلفاته كتابه عن المسئولية المدنية، وهو من أهم المراجع فى القانون المدنى، كما أن مؤلفه «الصحافة بين السلطة والسلطان» من أهم كتاباته حين عرض فيه الرأى فى اعتبار الصحافة سلطة رابعة.
ولنا أن نستكمل هذا المقال فى الأسبوع القادم إن شاء الله.