رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أزمة فرنسا



ضحايا فرنسيون جُدد، أضيفوا إلى ضحايا أكثر من ٢٠ عملية إرهابية، شهدتها فرنسا، منذ سنة ٢٠١٥، لا نعتقد أننا نتجاوز لو قلنا إن هؤلاء الضحايا دفعوا ثمن تراخى بلدهم فى مواجهة الإرهابيين، وتسامحها، ولن نقول تواطؤها، لسنوات طويلة، مع التنظيمات، المنظمات، والجمعيات التى تدعم التطرف والإرهاب.
بلا ضابط أو رابط، تدفقت التمويلات التركية والقطرية على جمعيات، مساجد، ومراكز دينية، فى فرنسا وفى غيرها من الدول الأوروبية. لكن ما يطرح عشرات علامات الاستفهام ومئات علامات التعجب، هو أن الاتحاد الأوروبى منح جمعيات ومنظمات، على علاقة بجماعة الإخوان الإرهابية، ٣٦.٥ مليون يورو، على شكل منح ومساعدات، خلال الفترة من ٢٠١٤ إلى ٢٠١٩، طبقًا لما ذكره تقرير أصدرته كتلة «الهوية والديمقراطية» فى البرلمان الأوروبى!.
الرئيس الفرنسى، كما نرى، يحاول إصلاح ما أفسده سابقوه، الذين فتحوا بلادهم على مصراعيها أمام المال التركى والقطرى، استثمارًا وتخريبًا، وتحالفوا مع الإرهابيين «الإسلاميين»، وقاتلوا معهم وبهم شعوب دول المنطقة، مع أن الرئيس نفسه وقف أمام برلمان تونس، فى فبراير ٢٠١٨، ليشيد بما حققه الإسلاميون فيها، وليزعم أن راشد الغنوشى، زعيم «حركة النهضة» الإخوانية، وأشباهه، أثبتوا أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية.
ربما لهذا السبب، لم يلتفت المتشنجون ضد فرنسا، الآن، إلى بيان، صدر فى بداية ٢٠١٩، حمل توقيعات رؤساء ورؤساء وزراء سابقين، وعدد من المفكرين ونجوم المجتمع الفرنسى، يطالب بحذف ٢٥ آية من القرآن الكريم لأنها تدعو، فى رأيهم، إلى القتل على الهوية!.
المسلمون فى فرنسا، كما فى غيرها، يعانون من ممارسات جماعات الإسلام السياسى، والإرهابيين المتمسحين فى الإسلام، أكثر من معاناة أتباع الديانات الأخرى واللادينيين أو الكفار. ولا نعتقد أن عاقلًا يعارض مواجهة المتشددين، المتطرفين، أو الإرهابيين، سواء كانوا يهودًا، مسيحيين، بوذيين، كفارًا، أو مسلمين كالذين وصفهم الرئيس ماكرون بأنهم «يحرفون الديانة الإسلامية ويستغلونها لأغراض سياسية خاصة بهم، وعلى رأسها بناء مجتمع موازٍ».
اتخاذ الدين، أى دين، مرجعية لتنظيم الحياة السياسية والعلاقات الاجتماعية، يجعله فى صراع مع منطق الدولة والمواطنة، والكلام ينسحب على المسيحية، اليهودية، وحتى على البوذية، التى تخلت عن تسامحها وسلميتها، حين صارت رمزًا للهوية الوطنية، والثابت هو أن جماعة الإخوان، وغيرها من الجماعات والتنظيمات الإرهابية الشبيهة، أفرغت الإسلام من محتواه العقائدى والثقافى وأدخلته فى صراع مع الدولة، وقامت بتفريخ عناصر متطرفة، لا حصر لها، عبر الترويج لأفكار تغذى الشعور بالاضطهاد وتعادى قيم، ممارسات، وقواعد العيش المشترك.
مجلس الشيوخ الفرنسى قام، فى ١٤ نوفمبر الماضى، بتشكيل لجنة للتحقيق فى قضية انتشار التطرف والنزعات الانفصالية فى أوساط المسلمين الفرنسيين. وبعد ثمانية أشهر من العمل، و٥٨ ساعة من الاجتماعات مع ٦٧ من الناشطين فى الجمعيات، والسياسيين والصحفيين والباحثين ووزراء ومسئولين، وضعت اللجنة تقريرها فى ٧ يوليو الماضى، الذى استبقه الرئيس الفرنسى وأعلن، فى ١٨ فبراير الماضى، عن أن بلاده ستتوقف تدريجيًا عن استقدام خطباء وأئمة مساجد من دول أخرى، وستواجه التمويل الخارجى للمساجد والمنشآت الإسلامية، وشدد على أهمية ذلك «لكبح النفوذ الأجنبى وفرض احترام قوانين الجمهورية الفرنسية على الجميع».
التقرير الذى بلغ عدد صفحاته ٢٤٤ صفحة، قال إن ظاهرة التطرف الإسلامى لا تقتصر على المجتمع الفرنسى، بل هى ظاهرة عالمية أصبحت ملحوظة منذ سنة ٢٠١٠. وبعد استعراض العديد من المؤشرات فى مجالات العمل الاجتماعى، الثقافى، الرياضى، وغيرها، أكدت اللجنة على نوع جديد من الراديكالية الدينية ينتشر فى صفوف المسلمين الفرنسيين، مختلف عن ذلك الذى كان منتشرًا فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، وأبدت اللجنة قلقها من تنامى هذه الموجة، الجديدة، التى باتت تهدد قيم الجمهورية.
قيل إن باريس فتحت، منذ أيام، تحقيقات فى منشورات، على شبكات التواصل الاجتماعى، تحرّض على الكراهية وتتعاطف مع الإرهابيين، وأعلنت وزارة الداخلية عن اعتزامها طرد ٢٣١ أجنبيًا مدرجين على قائمة التطرف والإرهاب، وتعزيز الإجراءات الأمنية، وتشديد الخناق على جمعيات إسلامية تتلقى تمويلًا من جهات أجنبية، والأهم من ذلك كله، هو أن محمد موسوى، رئيس «المجلس الفرنسى للديانة الإسلامية»، قال بمنتهى الوضوح، إن المسلمين «ليسوا مضطهدين»، ودعا كل مسلمى فرنسا إلى الدفاع عن مصالح بلدهم.
.. وتبقى الإشارة إلى أننا مضطرون إلى احترام مسلمى فرنسا، الذين يتراوح عددهم بين ٦ و٩ ملايين، لو قدموا ولاءهم لوطنهم على تعصبهم لديانتهم، ومجبرون على احترامهم لو قالوا: وطن بلا مساجد أفضل من مساجد بلا وطن.. بالضبط، كما احترمنا، وما زلنا، أشقاءنا المسيحيين الذين جعلوا ولاءهم لمصر فوق أى شىء، وكما انحنينا إجلالًا وتقديرًا لقداسة البابا حين قال: وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن.