رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد عبدالله دراز.. من أئمة الوسطية السمحة «2»



يتجلى تجديد الشيخ محمد دراز فى علوم القرآن من خلال المنهج الذى اتبعه، فقد اعتاد علماء الإسلام أن يبرهنوا على أصالة القرآن الكريم من خلال المدخل اللغوى البيانى بالأساس، أما الشيخ محمد دراز فانطلق من الدراسة التحليلية للرسالة القرآنية منطقيًا وتاريخيًا، وهذه منهجية تجديدية مفارِقة للمنهج المتوارث، ومن ثمراتها نقل القرآن من السياق الثقافى العربى، ووضعه فى سياق العالمية.
لم يكن «دراز» من أولئك الفئة من العلماء القابعين داخل أقبية الفكر، محتجبين عن الواقع وتياراته، وإنما هو من المنشغلين بقضايا وطنه وأمته، وللرجل مواقف مشهودة، فقد طاف على السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919 محاضرًا باللغة الفرنسية، التى أصر على تعلمها آنذاك ليشرح قضية بلاده أمام ممثلى الدول الغربية.
عُرف عنه تأييده إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية عام 1951، وكان ممن أسهموا فى إعداد كتيبة طلبة الأزهر التى انخرطت فى مقاومة القوات البريطانية بمنطقة قناة السويس، وفى أعقاب الثورة عرض عليه الضباط الأحرار منصب شيخ الأزهر، إلا أنه لم يهرول لقبول المنصب الجليل، واشترط الاستقلالية الكافية وأن تطلق يده لإجراء إصلاحات جوهرية بالأزهر، وعندما لم تتم الاستجابة لطلباته رفض قبول المنصب.
ومن الاهتمام بقضايا الوطن إلى مناصرة قضايا الأمة، فعندما كان بفرنسا جهر بتأييده حركات التحرر العربية: الفلسطينية والمغربية والجزائرية، وقد توطدت صلاته بوجه خاص مع جمعية العلماء الجزائريين حين شارك فى الأنشطة الثقافية والدعوية التى قامت بها فى باريس، ومن خلالها تعرف على «مالك بن نبى» الذى طلب منه أن يقدم لبعض كتاباته، كما تواصل الشيخ محمد دراز مع الإمام «عبدالحميد بن باديس» فى الجزائر، حين تدخل لدى الأزهر لقبول الطلبة الجزائريين بالجامعة العريقة.
من بين مؤلفاته: «دستور الأخلاق فى القرآن»، «بالفرنسية- مُترجم إلى العربية»، وهذا الكتاب هو رسالة الدكتوراه التى تقدم بها المصنف للسوربون باللغة الفرنسية، وقد طبعت النسخة الفرنسية عام 1950 على حساب مشيخة الأزهر الشريف، قام بالتعريب والتحقيق والتعليق: د. عبدالصبور شاهين، ومراجعة: د. محمد السيد بدوى، مجلد واحد فى أكثر من 800 صفحة، و«مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخى وتحليل مقارن» «بالفرنسية- مترجم إلى العربية»، أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراه المختار من كنوز السنة النبوية: شرح أربعين حديثًا فى أصول الدين، نظرات فى الإسلام، العبادات: الصلاة- الزكاة- الصوم- الحج، الصوم تربية وجهاد، زاد المسلم للدين والحياة.
وله رسائل عميقة فى موضوعات كتبها للمشاركة فى مؤتمرات علمية، مثل رسالته عن «الربا» التى قدمها لمؤتمر الحقوق الدولى فى باريس سنة 1951، ورسالته عن «الإسلام والعلاقات الدولية»، ورسالته عن «موقف الإسلام من الأديان الأخرى»، وله كتب شرع فيها، وظهر منها بعض الملازم ولم يكملها، مثل كتاب: «الميزان بين السُنة والبدعة».
ومن أعماله أيضًا: المختار، ورأى الإسلام فى القتال، وبين المثالية والواقعية، والأزهر الجامعة القديمة الحديثة، ومجموعة أحاديث إذاعية فى الدين والأخلاق، ومجموعة من المحاضرات والمقالات النافعة.
من معالم كتاباته: فى مفتتح رسالته «دستور الأخلاق فى القرآن» كتب الشيخ محمد دراز: «فإذا لم يأت عملنا هذا بشىء جديد فى عالم الشرق والغرب فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقالًا»، بهذه العبارة قيد الشيخ عملية الكتابة بقيد الإتيان بالجديد والإعراض عن اجترار القديم، وأشار إلى أهم ملمح يميز كتاباته على الإطلاق، أما باقى الملامح فيمكن إيجازها على النحو التالى:
أولًا: المدقق فيما كتبه الشيخ محمد دراز يجده لم يكتب جملًا متراصة بعضها فوق بعض لا تؤدى وظيفة إلا الوظيفة البلاغية، وإنما هو كمن شيّد بناءً لا تستطيع أن تصعد إلى طابقه الأعلى دون المرور على الطابق الأسفل، ولذلك يتعذر الاستغناء عن فقرة واحدة من كتاباته، أو أن نقدم بعضها أو نؤخره كما نفعل مع البعض، ذلك أن فقراته نظمت بإحكام فى أنساق مترابطة؛ كل فقرة تبرهن على ما سبقها وتمهد لما بعدها.
ثانيًا: غلبة الطابع التجريدى، والتجريد فى أصله عملية معرفية قوامها الفصل بين ما هو جوهرى وما هو ثانوى، وغايتها إقصاء الهامشى الذى لا يحمل دلالة بغرض الوقوف على لب الشىء وجوهره، وبفضل عمليات تجريدية متوالية توصل الشيخ محمد دراز، إلى أن القرآن يعالج موضوعين اثنين: الحق الأسمى والفضيلة، وكل ما تبقى من محتوياته ونصوصه ليس سوى وسائل لتعزيز رسالة القرآن وإعطائها وزنًا أكبر.
ثالثًا: فى كتاباته لا يقفز «دراز» إلى استنتاجات أو أحكام معينة دون أن يدلل عليها ويسوغها منطقيًا، والأدلة لديه بناء محكم يشد بعضه بعضًا، وهى على درجات ثلاث: أدلة شرعية، وأدلة تاريخية، وأدلة منطقية عقلية، وتكاثر الأدلة وتدرجها يعنى أنه لم يكن يكتفى بسوق الأدلة القرآنية دون أن يعضدها ببراهين منطقية عقلية، فكثيرًا ما أرجأ الدليل القرآنى إلى ما بعد الدليل المنطقى، ليحمل على الاستنتاج بأن المنطق والعقل سيقودان حتمًا إلى التصديق بالقرآن.
عُرف عن «دراز» مقارباته القرآنية التى تفرد بها عما سواه ممن سبقوه أو خلفوه، وإنجازه الأساسى أنه استطاع التوفيق بين طرفين يتعذر الجمع بينهما نظريًا، حين انتظمت مقارباته الآليات المنهجية «الموضوعية» والتجربة الإيمانية «الذاتية» على حد سواء، فأتت طرازًا فريدًا فى بابها، وتعد نظراته حول فاتحة الكتاب نموذجًا لهذا النظم، وهى تجمل منهجه فى النظر إلى النص القرآنى فى كليته وارتباط أجزائه بعضها البعض، والسعى إلى الكشف عن الوحدة الكامنة فيه خلف الكثرة البادية.
نظرة «دراز» إلى «الفاتحة» نظرة جديدة، فلم يكتفِ بالوقوف عند حدود آياتها ومعانيها، وإنما نظر إليها فى علاقتها بباقى سور القرآن، مفترضًا أنها على صغر آياتها تجمل مقاصد القرآن الكلية؛ وأن بقية السور ما هى إلا تفصيل وبيان لذلك الإجمال الذى حوته.
ومقاصد القرآن، كما بيّنها «دراز»، مقصدان نظريان: هما معرفة الحق ومعرفة الخير، ومقصدان عمليان تثمرهما هاتان المعرفتان؛ فثمرة معرفة الحق هى تقديسه؛ وثمرة معرفة الخير التزامه.
ظل الشيخ «دراز» ممسكًا بقلمه حتى انتقل إلى جوار ربه أثناء انعقاد مؤتمر الأديان بـ«لاهور» فى يناير 1958، إذ لم يمهله الأجل أن يتلو بحثه الأخير أمام المؤتمرين فأحدث رحيله دويًا هائلًا وفراغًا معرفيًا ما زال شاغرًا.