رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صيد الأخطاء والنواقص


يحيا البعض على اصطياد أوجه النقص فى كل ما يرونه، ولا يشتعل حماسهم وحرارة قلوبهم إلا من أخطاء وهفوات الغير، وهم لا يلاحظون سوى الشوك عندما يرون وردة، والغلطة عندما يتناولون الآخرين.. وبينما يمثل سعد زغلول قيمة وطنية تاريخية فإنهم لا يشيرون إلى شىء من كفاحه، ويتوقفون فقط عند أنه «مقامر»، وقد سجّل زغلول نفسه ذلك فى مذكراته، وقال إنه كان يخسر الكثير على ترابيزة القمار فى النادى، وكان يحاول الإقلاع عن تلك العادة لكنه لم يستطع، ومع ذلك فليست تلك النقيصة هى تاريخ سعد زغلول، ولا هى التى سجلت اسمه فى دفتر الوطن.
وأولئك لا يرون فى محمد عبدالوهاب الموسيقار العظيم سوى أنه «لص» سرق لحنًا من «فيردى»، ويتركون جانبًا عبقرية عبدالوهاب وتاريخه المبدع، ويفتشون فقط عن أى عيب أو غلطة.. كما ينحون جانبًا كل جمال صوت عبدالحليم حافظ وأثره الضخم، ويظلون يكررون أنه «حارب هانى شاكر»، ولا يجدون فى الفنان العظيم سوى قصة تافهة أثبت الزمن سخافتها لأن هانى شاكر ما زال- بعد رحيل عبدالحليم بزمن- يراوح مكانه.
ومؤخرًا، كتبت صحفية تحت عنوان كبير: «بعد مرور ٥٤ عامًا.. خطأ لم يلاحظه أحد لسعاد حسنى فى فيلم صغيرة على الحب»!، لكن الزميلة لاحظت الخطأ رغم انقضاء نصف قرن عليه! وتقول فى ذلك إن فيلم «صغيرة على الحب»، الذى عُرض عام ١٩٦٦، من أهم الأفلام، إلا أنه تضمن بعض الأخطاء، وتحدد الخطأ: «فى أحد المشاهد تظهر سعاد حسنى فى اللقطة الأولى وهى مبتلة تمامًا بالمياه خارج المنزل بعد أن رمى عليها نور الدمرداش المياه، ولكن بعد دخولها إلى المنزل مباشرة نفاجأ بأن ملابسها أصبحت مجففة!»، ولو جاءت تلك الملاحظة فى معرض نقد فنى للفيلم لكان الأمر مفهومًا، لكن أن نكتب فقط لنشير إلى أننا أمسكنا غلطة! فهذه النفسية تخترع الأخطاء والهفوات عندما لا تجدها، مثل ادعاء الممثل رضا حامد- أول مرة أسمع اسمه- فى تصريح لجريدة «الوطن»، أن عادل إمام استغنى عن رضا حامد وأعفاه من دور فى مسرحية، وحسب ادعاءات رضا فقد فسّر عادل قرار الاستغناء بقوله: «مش عاوز حد يضحّك أكتر منى»!.. طيب عادل طردك، وأنت ماذا قدمت من ساعتها؟ ألا تشبه هذه القصة حكاية هانى شاكر؟
النفسية التى تتسقّط الأخطاء وتفتش عنها بلهفة وسعادة هى التى تترك جانبًا كل عبقرية بيرم التونسى، وتظل تكرر أنه كتب قصيدة للملك يستعطفه ليرجع بها من منفاه. وبهذه النفسية كرر البعض من دون كلل أن نجيب محفوظ نال نوبل مكافأة له عن موقفه من «كامب ديفيد»، وتركوا كل عبقرية الأديب الذى لا يتكرر، وتشبثوا بقصة سخيفة، لأن محفوظ تاريخيًا، مع حسين فوزى ومع جيل الرواد الأوائل، كان يرى أن على مصر ألا تشغل نفسها بقضايا عربية، وأن تتفرغ لبناء نفسها كما فعلت اليابان، لكنه لم يتاجر بهذا الموقف ولم يتكسب منه.
إن التربص بالآخرين، وتسقّط الأخطاء بفرح، والعمى عن كل شىء طيب، يجسد فى اعتقادى نفسية معينة أكثر مما يجسد فكرة، لكن تلك النفسية قريبة الصلة من الفكرة التى لا ترى فى الحياة سوى الموت.. وقد حدث ذات يوم أن دبّ خلاف بين الأديبين الروسيين العملاقين أنطون تشيخوف وليف تولستوى، حين قال تولستوى إن كل ما يحتاجه المرء من العالم هو متران فى الأرض عند الدفن، فقد كان تولستوى يعتقد أن الموت هو الأمر الرئيسى فى رحلة الإنسان، ولهذا لم يكن يرى سوى الخاتمة.. أما تشيخوف، الذى كان يعشق الحياة ويقدس الطبيعة والموهبة، فقد أجاب بأن الجثة فقط هى التى تحتاج إلى مترين من الأرض، أما الإنسان فلا يسعه الكون بأكمله.. ونحن هنا إزاء نظرتين مختلفتين كليًا للحياة، نظرة تعتبر الحياة مجرد جسر إلى الموت، ونظرة أخرى تجد الحياة هبة لا تتكرر، جديرة بأن تُعاش بالطول والعرض.. هناك أيضًا النظرة التى لا ترى سوى الخراب، والنواقص، والعيوب، والمثالب، والنظرة التى ترى كل شىء فى سياقه، ملتحمًا، ومتداخلًا، وتتوقف بأمل عند كل ما يدفع الحياة إلى الأمام.