رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«جمعة» من الخرطوم: علاقة مصر والسودان يرسخها الدين واللغة والمصير المشترك

الدكتور محمد مختار
الدكتور محمد مختار جمعة

شارك الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، في المؤتمر الدولى الذى عقد بالخرطوم اليوم السبت تحت عنوان "الإسلام والتجديد بين الأصل والعصر"، بحضور كل من الفريق محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس السيادى، ونصر الدين مفرح أحمد وزير الشئون الدينية والأوقاف بالسودان، والدكتور عبدالرحيم آدم محمد رئيس مجمع الفقه الإسلامى بالسودان، والزبير محمد على مدير مركز الرعاية والتحصين الفكرى، والسفير حسام عيسى سفير مصر بالسودان، وعدد من الوزراء والسفراء وأساتذة الجامعات والعلماء والتنفيذيين وقيادات المجلس السيادى بالسودان الشقيق، ونحو500 عالم وباحث ومفكر وأكاديمى وإعلامى، ولفيف من الشخصيات الدينية والعامة.

وفى كلمته خلال الجلسة الافتتاحية أكد جمعة، أن الوطن والحفاظ عليه إحدى أهم الكليات الست التى يجب الحفاظ عليها والتى أحاطها الشرع الشريف بعناية بالغة وعمل على صيانتها، وهى: الدين، والوطن، والنفس، والعرض، والمال، والعقل، والنسل، فقد أجمع الفقهاء قديمًا وحديثًا على أنه إذا دخل العدو بلدًا من بلاد المسلمين وجب على أهل هذه البلدة أن يهبوا جميعًا للدفاع عن وطنهم ولو فنوا جميعًا فى سبيل ذلك، ومن قتل منهم فى سبيل ذلك فهو شهيد، ولَم يقل أحد على الإطلاق: إنهم إذا غلبهم العدو وخشوا على أنفسهم من الهلاك فروا من الهلاك ونجوا بأنفسهم لينشروا الدين فى مكان آخر، فالدين لا ينشأ فى الهواء الطلق، إذ لابد له من وطن يحمله ويحميه، فالمشردون لا يقيمون دينًا ولا دولة، ولن يحترم الناس ديننا ما لم نتفوق فى أمور دنيانا، فإن تفوقنا فى أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا، فدورنا هو عمارة الدنيا بالدِّين وليس تخريبها ولا تدميرها باسم الدين، فالأديان كلها رحمة، وحيث تكون المصلحة المعتبرة للبلاد والعباد فثمة شرع الله الحنيف.

وأكد وزير الأوقاف، أن مصالح الأوطان من صميم مقاصد الأديان، فكل ما يؤدى إلى قوة الدولة والحفاظ عليها وعلى تماسك بنائها ورقيها وتقدمها هو من صميم مقاصد الأديان ومراميها وغاياتها، وكل ما يؤدى إلى النيل من الوطن أو زعزعة أمنه أو استقراره لا علاقة له بالأديان ولا علاقة للأديان به، وكل الأديان منه براء، وقد قالوا: رجل فقير فى دولة غنية قوية خير من رجل غنى فى دولة فقيرة ضعيفة؛ لأن الأول له وطن يحمله ويحميه والآخر لا سند له فى الداخل ولا فى الخارج.

وتابع جمعة: "أما فيما يتصل بقضية التجديد بين الأصل والعصر فأؤكد أن هذا الموضوع شديد الاتزان والتوازن بين الحفاظ على الثوابت وفهم طبيعة المتغيرات، فإنزال الثابت منزلة المتغير هدم للثوابت، وإنزال المتغير منزلة الثابت طريق الجمود والتشدد والتطرف، مع تأكيدنا أننا لن نستطيع أن نقضى على التشدد والتطرف ونقتلعه من جذوره إلا إذا واجهنا الانحراف والتسيب بنفس القوة والحزم، فما أمر الله (عز وجل) بأمر فى الإسلام إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدى جهتين لا يبالى أيهما أصاب الإفراط أو التفريط، غاية ما فى الأمر أننا فى حاجة ملحة إلى إعمال العقل فى فهم صحيح النص، وعدم الوقوف عند آليات الحفظ والتلقين بالتحول إلى آليات الفهم والتحليل، يقول ابن القيم (رحمه الله): وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِى الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ.

واستطرد جمعة: "لقد فتح الإسلام باب الاجتهاد واسعا حتى فى عهد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفى حياته، يتجلى ذلك عندما بعث سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيدنا معاذ بن جبل (رضى الله عنه) إلى اليمن وقال له بم تحكم ؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد، فقال بسنة رسول الله، فقال فإن لم تجد، قال أجتهد رأيى ولا آلو، فقال الرسول (عليه الصلاة والسلام): الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يحبه ويرضاه، هذا على عهد سيدنا رسول الله وفى حياته ولم ينكر سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سيدنا معاذ بن جبل (رضى الله عنه) بل أقره عليه، وقال الحمد الله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله، وهو ما صار عليه الصحابة الكرام".

وأضاف وزير الأوقاف: "وإذا أردنا أن نأخذ أنموذجًا شديد الوضوح فى فهم المقاصد، فلنقف مع ما كان من سيدنا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) فى فهم طبيعة سهم المؤلفة قلوبهم، وهم سهم ثابت بنص القرآن الكريم حيث يقول الحق سبحانه: " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"، وهذا النص طبقه على أرض الواقع سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بصرف هذا السهم للمؤلفة قلوبهم، فلما جاء عصر سيدنا أبى بكر الصديق (رضى الله عنه) واستشار سيدنا عمر بن الخطاب قال سيدنا عمر والله لا نعطيهم، كنا نعطيهم ونحن قلة مستضعفون وقد أتم الله علينا بفضله، فلم يعد بنا حاجة إلى تألف هؤلاء، ولا يستطيع أحد أن يقول إن سيدنا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قد عطل النص، وإنما أعمله حيث وجد أهله، ورأى صرفه إلى غيرهم حيث أصبحوا هم فى حكم غير الموجودين، كما يصرف لهم تحرير الرقاب فى المصارف الأخرى ما لم يوجد من يستحقه منهم.

النموذج الثانى: هو ما يتصل بتصرفات النبى (صلى الله عليه وسلم) فى إدارة الدولة، فنبينا (صلى الله عليه وسلم) لم يكن نبيًّا ورسولًا فحسب، إنما كان (صلى الله عليه وسلم) نبيًّا ورسولًا وحاكمًا وقائدًا عسكريًّا، فما تصرف فيه باعتباره نبيًّا ورسولًا فيما يتصل بشئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق وصح نسبته إليه (صلى الله عليه وسلم) أُخذ على النحو الذى بينه (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، ولا يختلف أمر البيان فيه باختلاف الزمان أو المكان كونه من الأمور الثابتة سواء اتصل بأمر الفرائض كصوم رمضان، والصلاة، والزكاة، والحج، أم اتصل بأمر السنن الثابتة عنه (صلى الله عليه وسلم) كصوم عرفة أو صوم عاشوراء.

أما ما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) بصفته نبيًّا وحاكمًا أو بصفته نبيًّا وقائدًا عسكريًّا، أو بصفته نبيًّا وقاضيًا، فهو تصرف باعتبارين: باعتباره (صلى الله عليه وسلم) نبيًّا واعتباره (صلى الله عليه وسلم) حاكمًا أو قائدًا أو قاضيًا.

وأضاف جمعة:"ولو نظرنا إلى المقصد الأسمى وهو تنظيف مكان النوم والتأكد من خُلوِّهِ مما يمكن أن يسبب للإنسان أى أذى من حشرة أو نحوها، لأدركنا أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك بأى آلة عصرية تحقق المقصد وتفى بالغرض من منفضة أو مكنسة أو نحوهما، فالعبرة ليست بإمساك طرف الثوب، وإنما بما يتحقق به نظافة المكان والتأكد من خُلوِّهِ مما يمكن أن يسبب الأذى للإنسان؛ بل إن ذلك قد يتحقق بمنفضة أو نحوها أكثر مما يتحقق بطرف الثوب، لكن النبى (صلى الله عليه وسلم) خاطب قومه بما هو من عاداتهم وما هو متيسر فى أيامهم حتى لا يشق عليهم فى ضوء معطيات ومقومات حياتهم البسيطة، وكأنه (صلى الله عليه وسلم) يقول لهم: نظِّفوا أماكن نومكم قبل أن تأووا إليها بما تيسر ولو بطرف ثيابكم"
وعلل بعض شراح الحديث التوجيه بالأخذ بطرف الثوب بأنه (صلى الله عليه وسلم) وجَّه بذلك حتى لا تصاب اليد بأذى من آلة حادة أو طرف خشبة مدببة، أو تراب أو قذاة أو هوام، أو حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات، أو عود صغير يؤذى النائم وهو لا يشعر، أو نحو ذلك لو عمد الإنسان إلى نظافة مكان نومه بيده، وهو ما يؤكد المعنى الذى ذهبنا إليه، ومع ذلك فمن شابهت حياته حياتهم فلا حرج عليه إن أخذ بظاهر النص فنظف مكان نومه بطرف ثوبه، غير أن محاولة حمل الناس جميعًا على الأخذ بظاهر النص دون سواه يعد من باب ضيق الأفق فى فهم مقصد النص والتعسير على الناس فى شئون حياتهم.

واختتم وزير الأوقاف كلمته قائلًا:"ونختم بالحديث عن أمر فى غاية الأهمية وهو فلسفة نظام الحكم، ونؤكد أن الإسلام لم يضع قالبًا جامدًا صامتًا محددًا لنظام الحكم لا يمكن الخروج عنـه، وإنما وضع أسسًـا ومعـايير متى تحققت كان الحكم رشيدًا يُقـرّه الإسلام، ومتى اختلّت أصـاب الحكم من الخلل والاضطراب بمقـدار اختلالهـا، ولعل العنوان الأهم الأبرز لنظام أى حكم رشيد هو مدى تحقيقه لمصالح البلاد والعباد، وعلى أقل تقدير مدى عمله لذلك وسعيه إليه، فأى حكم يسعى إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد- فى ضوء معانى العدل والمساواة والحـرية المنضبطـة، بعيدًا عن الفـوضى والمحسوبيـة وتقديـم الولاء على الكفاءة- فهو حكم رشيد معتبر".