رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفن هو «أنا» والعلم هو «نحن»


أرى أن الإبداع الفنى يتم فى إطار نزوع ذاتى محض، إلى حد التأكيد أن «الأذواق لا تناقش» لو كان الأمر يتعلق بإطلاق أحكام وأوصاف للجمال والأذواق، ولا دخل فيه لعوامل موضوعية أو لقيم جماعية،.
ولهذا كتب «كلود برنار» فى كتابه مدخل إلى الطب التجريبى يقول: «إن الفن هو أنا بينما العلم هو نحن»، إشارة منه إلى أن الحقيقة أو النظرية العلمية يلتقى عندها الكل، لأنها قد سبق الإجماع على برهنتها على أساس قواعد متداولة مشتركة فى التجريب واستخدام العقل البشرى الذى يفكر بطريقة منطقية وهو يدرس موجودات الطبيعة، بينما يتميز الإبداع الجمالى بانفلاته من هذه المعايير وخضوعه لدواعى الذات الفردية لا غير، مما يجعل تفسيره مستحيلًا انطلاقًا من قواعد مشتركة منطقية أو أخلاقية.
لا ريب أن هناك علاقة تبادلية وطردية بين الفن والمجتمع، فالفن يسهم فى صياغة روح وهوية المجتمع والعكس أيضًا، فالإثنان يؤثران على بعضهما بعضًا.. إن حضارات الشعوب وتقدمها يقاس بمدى الاهتمام بالفنون كما حدث فى بعض البلدان الغربية التى قدمت تاريخها من خلال الفنون.. وعليه، أرى أهمية أن تلعب الأجهزة الإعلامية والثقافية والشبابية والتربوية دورها فى تعريف الأجيال الطالعة بماهية العمل الفنى ودور الفنون وأهمية تفعيل الأنشطة الثقافية فى الدفع بآليات التقدم والتنمية.
ومعلوم أن الاهتمام فى المرحلة القادمة بإثراء الوعى الفنى والثقافى بات ضرورة فى مواجهة أهل التشدد وأصحاب الفكر الظلامى، بعد أن صار البعض المُغيب منهم يتنادون بتحريم الفن، لأنه يشغل الناس عن ذكر الله، ولأنه يحض على الفسق والفجور.. وفى المقابل ينبغى التبشير بدور الفن فى نشر قيم التسامح.
وعلى صعيد الاهتمام بدعم الفنون وترقيتها فى مجال بناء الإنسان، أرى أن الفنان هو الإنسان الذى يسير دائمًا فى طريق خاص ذاتى، بل وقد يكون الدرب المختلف والمغاير لحركة المجتمع إذا حكمت أهله عقلية القطيع التابع، ويبقى إبداعه هو الصوت الذى ينبذ هيمنة المطلق والحالة الشمولية.. الفن خرق لمفهوم العادة والاعتياد والنمطية.. الفن تمرد على القوالب الجاهزة وتجاوز لكل أكليشيهات أهل التنظير الحكيم، فالفن أراه هو الابن العاق الذى يرفض الخنوع والخضوع للطاعة.. الفن هو الخروج عن سطور الكتابة وعلامات التشكيل الضابطة للمعنى الواحد لتجميعة حروف تليدة، فقد تكتب حروف الفن فى هوامش كانت الكتابة ممنوعة الظهور فيها.. الفن لا بد أن يحمل علامات التميز والندرة وإعادة الخلق وتجدد البناء وحرية الهدم والتفجير لو تطلب الأمر ذلك.. الفن هو الصوت الحر المشحون بهموم الذات وإيقاعاتها اليومية.
ووفق ذلك التفهم أكّد «مارسيل بروست» أن «الحسّ الفنى خضوع لواقع داخلى»، ما يعنى استحالة جعل الفنان يخضع لمحددات واقع تشكل ملامحه التقاليد أو العادات أو زواجر القيم والأخلاق، إذ الفن هو تمرد على ذلك كله بغية التعبير الحر عن مكامن الذات الإنسانية، وهو تمرد محمود ومقبول اجتماعيًا، لأن الناس يعتبرونه إبداعًا جماليًا وليس تعبيرًا مباشرًا باللغة العادية، فلو قام أحد منا بالتلفظ بعبارات جنسية فاضحة لنال من التقريع والشتائم من الناس ما لم يتوقعه، ولكن عندما يذهب شاعر بالتعبير عن نفس المعنى فى قصائده يتداولها الناس بشكل طبيعى وكأنه أعطاها علامة مرور.
وعليه، فالأمر تضبطه رؤية الفنان للعالم، وقد عبر عن ذلك الشاعر الفرنسى «بول إلوار» عندما قال: «أن أرى العالم كما أنا لا كما هو»، أى أن النظرة إلى الأشياء تمر عبر أحاسيس الذات ومشاعرها وأحلامها وآلامها وتمثلاتها وليست فعلًا باردًا مجردًا من حرارة الذات الإنسانية المتفاعلة.