رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصام زكريا يكتب: سيرة القلب.. ذكريات عن الثقافة والفن والحب فى نصف قرن (6)

عصام زكريا
عصام زكريا

فى الساعة الخامسة مساء موعدى اليومى مع محطة «أم كلثوم». يبدأ البث فى الخامسة تمامًا وينتهى فى العاشرة. خمس ساعات من الأغانى الخالصة. لا يوجد برامج، ولا مذيع تقديم، ولا إعلانات. تبدو المحطة وكأنها قادمة من فضاء كونى بعيد. موسيقى تأتى من القمر. تبدأ قبل الغروب بقليل، وقت مثالى للشجن، بهمهمات وموسيقى بداية حفل أم كلثوم، فواحدة من أغانيها الطويلة، يعقبها أغنية أو أكثر لمحمد عبدالوهاب، ثم فريد الأطرش، فنجاة، فعبدالحليم، فليلى مراد، ثم عدد من المطربين الآخرين، قبل أن تختم مرة أخرى بأغنية لأم كلثوم، وتتركك بعد خمس ساعات من الطرب معلقًا فى خيوط الليل الطويل، منتشيًا، هائمًا فى حبيب غير موجود، وحب لم يحدث بعد.. ينطبق عليك وصف صلاح جاهين فى أغنية محمد منير: «إيديا فى جيوبى وقلبى طرب.. سارح فى غربة بس مش مغترب».
ميراث طويل من الشجن، الميلانكولى، أو الميلانخوليا، كما يقول الأوروبيون عن ذلك الحب الحزين الكئيب الذى يميل إليه بعض الأفراد والشعوب. الحب بالنسبة لنا قصيدة وأغنية ورسالة فى قصاصة ورق نضعها فى يد المحبوبة ونسارع بالهرب، أو نتركها فى طريقها لتجدها بالصدفة... وليل نقضيه فى السهاد والعذاب ومناجاة القمر!
ما زلت فى النصف الأخير من السبعينيات، فى بداية المراهقة. لا أذكر بالضبط عدد المرات التى تخيلت فيها أننى وقعت فى الحب. أى فتاة تمر بحياتنا ولو عبر شرفة منزل بعيد هى بالنسبة لنا موضوع للحب. ربما نلتقى عن قرب ونتحدث، وربما نتواعد مرة، ولكن غالبًا لا يتطور الأمر لأكثر من ذلك، وسرعان ما يتبخر الحب خلال أيام أو أسابيع مثل قطرة ماء.
مع المراهقة بدأت أهتم أكثر بالغناء والأدب. أعتقد أنها سمة عامة بين البشر. الأغانى العاطفية التى كانت تبدو بلا معنى للطفل، تكتسب الآن معنى وتأثيرًا مختلفًا. كذلك الأدب. فى تلك الفترة قرأت عشرات الروايات: مؤلفات وترجمات مصطفى لطفى المنفلوطى صاحب القصص العاطفية المأساوية وطه حسين والحكيم وإدريس ونجيب محفوظ، ومن الأدب العالمى الكثير من الترجمات: «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز، «وداعًا أيها الحزن» لفرانسواز ساجان، «أحدب نوتردام» لفيكتور هوجو، وقصص تشيكوف وجى دى موباسان وهيمنجواى القصيرة.. وعشرات أخرى يصعب حصرها. تأثرت جدًا بـ«البعث» لتولستوى، والثلاثية و«خان الخليلى» لمحفوظ، و«دعاء الكروان» لطه حسين، التى اعتبرتها، وما زلت، من أعذب ما كتب باللغة العربية. وكنت، عقب قراءتى لثلاثية «الأيام»، قد قررت أن أتكلم باللغة الفصحى فقط كما يفعل طه حسين، وعندما جربت ذلك ابتسمت أمى وإخوتى وضحك الأصدقاء، فتراجعت محبطًا!
كما ذكرت من قبل، وفرت سلسلتا «كتابى» و«مطبوعات كتابى» مصدرًا غنيًا لمعرفة الكثير عن كلاسيكيات الكتب فى العالم. لقد استطاع رجل بمفرده، وهو حلمى مراد الذى تحل ذكرى ميلاده المئوية هذا العام، أن ينجز ما تفعله مؤسسة كاملة، ويكفى لأى شخص أن يقرأ المائة كتاب أو أكثر التى صدرت من السلسلتين ليبنى قاعدة أساسية من المعرفة، لا تكفى بالقطع، ولكن تؤهله لخوض طريق المعارف غير هياب أو متردد.
كانت أسعد أوقاتى عندما أضع أعداد «كتابى» أمامى على الأرض أو فى السرير، وأبدأ فى الإبحار بينها، من ملخص لملحمة هندية قديمة إلى كتاب لفيلسوف إغريقى كبير إلى مذكرات زعيم سياسى معاصر إلى سيرة مخترع أو عالم شهير.
بجانب القراءة والسينما انضمت الموسيقى والأغانى إلى مجال اهتماماتى. كان الاستماع إلى محطة «أم كلثوم» طقسًا يوميًا أحرص عليه لسنوات، لكن «الكاسيت» كان قد ظهر، وأصبح بمقدور الناس أن يستمعوا إلى ما يريدون وقتما يريدون. ذلك أن الجرامافون والأسطوانات كانت نادرة ولا توجد سوى فى بيوت الأغنياء فقط، ولا أذكر أننى رأيتهما فى بيت أى أحد من أصدقائى أو معارفنا.
الكاسيت حرر الناس من عبودية الإذاعة. بالنسبة لى كان البلورة السحرية التى اطلعت من خلالها على عالم آخر فاتن: عالم الموسيقى والأغانى الغربية التى كانت تشهد ثورة الروك أند رول والديسكو بجانب أنواع موسيقية أخرى قديمة وحديثة.
صحيح أن برنامج «العالم يغنى» التليفزيونى ساهم فى تعريف المشاهدين ببعض الأسماء المعاصرة فى عالم الغناء والموسيقى، مثلما فعل برنامج «نادى السينما»، ولكن هذه المعرفة كانت محدودة وقاصرة بحكم إمكانيات التليفزيون وثقافة القائمين على هذه البرامج والأهم بحكم الرقابة التليفزيونية الصارمة.
«الكاسيت»، ثم «الفيديو كاسيت» من بعده فتحا أبواب الموسيقى والسينما أمام مراهقى السبعينيات.
مات عبدالحليم حافظ فى مارس 1977، تاركًا شهقة جزع فى النفوس ودمعة فى العيون، وشعورًا غير واع بنهاية عصر، وحلول عصر أكثر فوضوية وسوقية ومرحًا. وبعده بشهور مات إلفيس بريسلى تاركًا قدرًا من المشاعر المشابهة فى أمريكا والعالم. فى هذه الفترة ظهرت أغنية «كسرت الدنيا» (تعريب للمصطلح الإنجليزى Hit الذى يشير إلى الأغانى والألبومات الناجحة)، بعنوان «الفيديو قتل نجم الراديو» Video killed the Radio Star للفريق الغنائى «باجلز»، أذكر من كلماتها «الفيديو قتل نجم الراديو.. جاءت الصور، وحطمت قلبه.. اللوم يقع على جهاز الفى سى آر»!
هذه الأغنية التى ظهرت فى الوقت المناسب، ربما أكثر من أى أغنية أخرى، كانت أول «فيديو كليب» يبث على قناة «ام تى فى» أول قناة «فيديو كليب»، التى ستغير شكل الغناء فى العالم خلال الثمانينيات.. حيث ستصبح الأغنية المصورة هى الأساس الذى لا يمكن أن يستغنى عنه مغنٍّ.
استمعت إلى «الفيديو قتل نجم الراديو» على شرائط كاسيت، على ما أذكر، وربما أكون قد استمعت إليها قبل ذلك فى برنامج إذاعى أو تليفزيونى، ولكن المفارقة أن هؤلاء المطربين القدامى الذين تتحدث عنهم الأغنية كتبت لهم حياة جديدة من خلال الكاسيت، فقد استمعت إلى معظمهم عبر الكاسيت، ومنهم إلفيس بريسلى الذى أحببت صوته وأغانيه كثيرًا، وعلقت ملصقًا كبيرًا له فى غرفتى يحمل صورته وعبارة «الملك سيظل حيًا» The King Lives On بجوار صور نجومى المفضلين مثل بروس لى ومحمود الخطيب. والأمر نفسه ينطبق على السينما، فالتليفزيون، ثم الفيديو، اللذين قيل إنهما سيقضيان على السينما، ساهما بشكل كبير فى نشر الثقافة السينمائية، وأتاحا لنا مشاهدة أعمال قديمة وحديثة لم يكن يمكن أن نشاهدها لولا التليفزيون والفيديو.
إنه عصر الانفتاح! وقد امتدت سياسة الانفتاح الاقتصادى إلى الانفتاح الثقافى على العالم، خاصة الغربى، وظهرت أسماء وأعمال وأنواع فنية لم تكن مسموحًا لها، أو مستحبة، من قبل. وساهمت شركات الكاسيت الوليدة حديثًا فى ترويج عشرات الفنانين المصريين والأجانب. وقد تعرفت خلال تلك السنوات على الكثير من الفرق والمغنيين الأمريكيين والأوروبيين. أحببت «البيتلز»، والـ«بى جيز» الذين قدموا أغانى فيلمى «حمى ليلة السبت» (1977) و«شحم» (Grease 1978) اللذين لعب بطولتهما جون ترافولتا، معبود بنات وشباب الجيل، وشاركته بطولة الفيلم الثانى المغنية أوليفيا نيوتن جون، صاحبة الصوت الشجى، والأغنية الجميلة «مخلصة لك، بلا أمل»، التى كان يتكرر عرضها فى برنامج «العالم يغنى». عشقت أيضًا موسيقى الروك التى تقدمها فرق «كوين» و«بينك فلويد» و«سوبر ترامب»: بالتحديد حفظت من أعمال «بينك فلويد» أغانى ألبوم «الحائط»، وخاصة أغنية «حجر آخر فى الحائط» التى تقول كلماتها:
«لا نريد تعليمًا»
«لا نريد تحكمًا فى الأفكار»
«ولا تلك السخرية السوداء فى الفصول»
«أيها المدرسون، اتركوا الأطفال لشأنهم»
«هيا، أيها المدرسون، اتركونا نحن الأطفال لشأننا»
«كل شىء ما هو إلا حجر آخر فى الحائط».
ألبوم «الحائط» سيتحول إلى فيلم غنائى فريد من نوعه للمخرج الذى رحل مؤخرًا آلان باركر، سوف أشاهده على شرائط الفيديو بعد سنوات، وأعشقه حتى الإدمان.
الأغنية الأخرى التى حفظتها عن ظهر قلب تحمل عنوان «الأغنية المنطقية» لفريق «سوبر ترامب» والتى تقول بعض كلماتها:
«عندما كنت صغيرًا»
«كان يبدو أن الحياة رائعة»
« معجزة، أوه لقد كانت جميلة، ساحرة»
«كل الطيور فوق الأشجار»
«كانت تغنى بسعادة»
«أوه بابتهاج، ومرح، كانت تتفرج علىَّ»
«ولكن عندئذ، أرسلونى بعيدًا، لكى أتعلم كيف أصبح مسئولًا، عمليًا»
«وأطلعونى على عالم يمكننى فيه أن أصبح فيه اعتماديًا»
«أوه، معمليًا، تهكميًا».
الطريف أن كلتا الأغنيتين ظهرتا عام 1979، العام الذى ظهرت فيه «الفيديو قتل نجم الراديو».
من مطربى البوب الرومانسى عشقت «بول أنكا، وشارل أزنافور، وانريكو ماسياس، الفرنسى مغربى الأصل»، والكل أحب بالطبع ديميس روسوس، اليونانى المولود فى الإسكندرية، ذلك البدين الذى يرتدى عباءة تشبه الجلباب، ولكن صوته حالم مثل آلة كمان، يغنى أغنيته «التى كسرت الدنيا» «Faraway» أو «بعيدًا جدًا»، وبعض المغنين الفرنسيين الذين كانوا يظهرون فى برنامج «العالم يغنى»، مثل «ميرى ماتيو وجو داسان وجونى هاليداى، وداليدا بالطبع»، التى زارت مصر خلال تلك الفترة وقدمت حفلاتها وأغانيها الناطقة بالعربية الجميلة مثل «سالمة يا سلامة» و«حلوة يا بلدى». وبجانب كل هؤلاء أشهر مطربى فرق الديسكو الراقص الذين سلبوا رءوس وخصور الملايين خلال السبعينيات، وكان نظام الصوت قد تطور إلى «الإستريو» وأصبحت أجهزة الكاسيت بسماعتين لتستوعب النظام الجديد الذى يصدر أصواتًا مجسمة قوية تهز الأبدان.
النصف الثانى من السبعينيات هو سنوات الغناء بل جدال. فى كل شارع وحارة ظهر «بوتيك» لبيع الألبومات الجديدة، مصرى وأجنبى، وكنا نتبارى فى الحصول على أحدث الشرائط لنتبادلها أو ندعو الأصدقاء للاستماع إليها.
أهدانى أبى، أو بمعنى أدق استوليت أنا، بحكم كونى الأخ الأكبر، على جهاز تسجيل كاسيت بوحدتين، يمكنه أن ينسخ محتويات شريط على شريط آخر، كنت أقوم بنسخ الشرائط التى تعجبنى من الأصدقاء، أو أنسخ لهم ما يعجبهم من شرائطى. وكنت أسجل من الراديو أغانى محطة أم كلثوم والأغانى الأجنبية التى يبثها البرنامج العام، خاصة فقرات الموسيقى الخفيفة، المأخوذة غالبًا من موسيقات الأغانى والأفلام.. وأحيانًا بعض مقطوعات خفيفة من الموسيقى الكلاسيكية التى لم أكن قد تعرفت على جمالها بعد.
كان هناك كتاب غير دورى لا أعلم جهة نشره، ولكنه كان يباع لدى مكتبة «مدبولى» بوسط البلد، اسمه على ما أذكر «هيت باراد» وكان يحتوى على نصوص أغانى أجنبية شهيرة، كذلك كانت مجلة «صباح الخير» تنشر بابًا أسبوعيًا للموسيقى يضم نص إحدى الأغانى وترجمتها. ومن أجل عيون هذه الأغانى تكون لدىّ حافز إضافى لتعلم اللغة الإنجليزية.. سوف تصبح السينما حافزًا آخر فيما بعد، عندما أنضم لنادى سينما القاهرة، وأتابع المراكز الثقافية الأجنبية ومهرجان القاهرة السينمائى وبقية الأماكن التى تعرض أفلامًا غير مترجمة للعربية.
الآن.. بعد نحو أربعين عامًا على هذه الذكريات، عندما أسمع دعاوى ضرورة ترجمة أفلام المهرجانات إلى اللغة العربية حتى يفهمها الجمهور «العادى» أتعجب: وكيف سيمكن للجمهور العادى هذا أن يتطور إذا لم يكن لديه حافز للتعلم وتطوير ذائقته؟! لقد كنت وأصدقائى جمهورًا أقل من العادى فى زمن أصعب، ولكننا اجتهدنا كثيرًا واستمتعنا بهذا الجهد لكى نتعلم اللغات ونتثقف فنيًا.
فى هذه الفترة أيضًا ظهرت الفرق الموسيقية المصرية التى أسهمت فى تغيير شكل الغناء فى مصر وتحديدًا: «المصريين»، «الجيتس»، «النهار» ، طيبة»، «الفور إم»، «الأصدقاء».
فرقة «المصريين» تحديدًا أحدثت ثورة فى كلمات الأغانى وألحانها وطريقة أدائها. أغنية «بحبك لا» مثلًا، عنوان أول ألبوماتهم «1977»، أثارت ضجة كبرى. وقد أصدرت الفرقة مجموعة من الأغانى الرائعة لحنًا وكتابة، خاصة فى ألبوماتهم الثلاثة الأولى، شكلت حساسية جديدة تختلف عن «حساسية الميلانخوليا» التى كانت تبثها محطة «أم كلثوم».
 من هذه الأغانى التى لا تنسى: «بحبك لا»، «ما تحسبوش يا بنات أن الجواز راحة»، و«بنات كتير بيغيروا منّى»، «حرية» و«الفرق ما بينى وبين والدى مسألة السن» وغيرها.. لقد كان يكتب أغانيها صلاح جاهين، وعبدالرحيم منصور. هذه الأغانى كانت تحمل روح الثورة والتحرر المرتبطين بنهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ولكن للأسف لن يكتب لتلك الثورة الموسيقية أن تستمر طويلًا، وسرعان ما سيتم تدجينها بفعل ذوق بورجوازى محافظ وسطحى، راح يتسلل، ويتوغل، على مدار الثمانينيات.
سوف أعود إلى ذلك فى وقته، ولكننا الآن لا نزال فى النصف الثانى من السبعينيات.
بوادر التمرد التى ظهرت فى طفولتى ازدادت حدة بدخولى مرحلة المراهقة. بجانب الأدب، استهوانى علم النفس كثيرًا وبالتحديد كتب مؤسس علم التحليل النفسى «سيجموند فرويد» التى صدر بعضها بالعربية من ترجمة محمد عثمان نجاتى وكتابه «تفسير الأحلام» الذى ترجمه مصطفى صفوان وصدر عن دار المعارف، قبل أن يقوم اللبنانى جورج طرابيشى بترجمة معظمها بعد ذلك.
قرأت أيضًا، بفضل جارنا كمال المعيد بقسم الفلسفة، بعض كتب الفلسفة التى ظهرت ترجماتها خلال الستينيات، خاصة فى «الوجودية» للفرنسيين سارتر وكامو والإنجليزى كولين ويلسون وكتابه الشهير «اللامنتمى».
 وهذه الكتب قلبت رأسى أكثر مما هو مقلوب أصلًا، وزعزعت كل يقين كنت أؤمن به. أتذكر أننى كنت أقرأ كتابًا فى تاريخ الفلسفة، لا أذكر عنوانه ولا مؤلفه، لعله يوسف كرم أو عبدالرحمن بدوى، وكلما قرأت أفكار فيلسوف أو مدرسة فلسفية اقتنعت بها، ثم أقرأ نقد وتفنيد فيلسوف لاحق فأقتنع به. على سبيل المثال نظرية المحرك الأول لأرسطو، ونقد هيوم لها، ثم نقد نظرية هيوم نفسه، والنتيجة: يوم أفكر فى التحول إلى راهب واعتزال حياة الفساد، وفى اليوم التالى أتحول إلى زنديق، وفى كل الأحوال يتزايد شعورى بعدم التوافق مع المحيط والمحيطين بى.
فى تلك الفترة كان أمتع حدث فى حياتنا هو المصيف السنوى فى أبى قير أو جمصة أو مرسى مطروح أو الإسكندرية بالطبع. المعمورة كانت على القمة، وكنا نستطيع الدخول إليها بتذاكر، أو متسللين، أما العجمى فكان مصيف الصفوة والبكينى الساخن، وأذكر بالتحديد شاطئ البيطاش، وهذا كنا نتسلل كاللصوص لدخوله والفرجة على بناته.
المصيف وقت مستقطع من الواقع الكئيب الممل، أسبوع أو عشرة أيام خارج الزمان والمكان، يتحرر خلالها الجسد من الملابس والعقل من القيود والروح من الهموم. وقد جربت معظم أنواع المصايف: مع الأسرة، أو معسكرات الطلبة، أو السفر مع بعض الأصدقاء والإقامة فى بيوت الشباب، أو خلال مسابقات الشطرنج التى كانت تقام فى الإسكندرية. ما ألطف أيام وليالى وعلاقات المصايف التى عشتها خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات، البهجة الخالصة، والاستمتاع بأقل شىء: البحر والشمس والآيس كريم والتمشية على الشاطئ بعد الغروب، قبل أن يحل زمن القبح العظيم. 
كانت السبعينيات مرحلة فاصلة، شديدة الاضطراب، تحفل بتناقضات هائلة على كل المستويات: ارتفاع مستوى المعيشة وبداية انقسام المجتمع إلى طبقتين لا تلتقيان، مع الانحدار المتوالى للطبقة الوسطى نحو الفقر. ذروة التحرر الثقافى والجنسى، مع بداية ظهور جماعات الإسلام السياسى وصعود التطرف الدينى، نهاية المعتقلات وتكميم الأفواه وإعلان الديمقراطية التى انتهت بممثلى كل التيارات فى المعتقلات.