رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود ياسين.. ونهر الأحزان!


برغم الإيمان الشديد الذي لا يتزعزع؛ بأن الموت هو (كمالة) الحياة.. إلا أن القلب لا يستطيع أن يمنع طوفان نهر الأحزان الذي يجتاح أركان جدران الروح، ولا تستطيع المآقي أن تكبح شلالات الدموع!

وها نحن نرى فتيل قناديل شارع الفن- في مصرنا المحروسة- وهي تذبل، وتخبو، وتموت، واحدة تلو الأخرى، لتتركنا نعزي بعضنا البعض في سرادقات الوفاء والعرفان لجيل الرواد من العمالقة، هؤلاء الذين أثروا الحياة الفنية المصرية طوال نصف قرن من الزمان، واقترنت بوجودهم على الساحة سمات وقسمات ونفحات.. ما أطلقنا عليه لقب "الزمن الجميل".

لقد ودعنا مؤخرا أحد رموز هذا الزمان الجميل؛ وهو الفنان محمود ياسين؛ الذي خرج من عباءة الثوار ونسل الفدائيين؛ كابن من أبناء المدينة الباسلة "بورسعيد"؛ ليعود إليها ك "محام" بعد حصوله على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس في العام ١٩٦٤؛ وهو لم يتخط بعد عامه الثالث والعشرين؛ ليرفض "الوظيفة الميري" التي رشحته لها مكاتب القوى العاملة آنذاك'؛ وكأنه يحمل روح التمرد منذ خروجه إلى الحياة العملية؛ أو لنقُل إن "جذوة الفن" التي بدأ اشتعالها في تجاويف الشرايين؛ هي التي حرضته على إعلان التمرد على قيود وأغلال الوظيفة ؛ ليذهب باحثا عن ذاته المتوهجة إلى أحضان المسرح القومي ليجتاز عدة اختبارات؛ يؤهله اجتيازها- للدخول من بوابة الفن- قامته الفارهة وصوته الجهوري ذو النبرة المائزة المحببة الفخمة الذي لا يحتاج إلى دعمه بميكروفونات لإيصال ترددات صدى الصوت في جنبات المسرح؛ وتزكيه فتوته وشبابه الغض- وبخاصة أن نجوم المسرح والسينما معظمهم وقتذاك كانوا في طريقهم إلى حافة الغروب العُمري والفني- إلى اقتحام أدوار البطولة؛ وساعدته "جينات الثوار" التي تجري في دمه- بحكم المولد والنشأة- إلى ترشيحه لأدوار البطولة في المسرحيات التي تحمل في طياتها روح التمرد والثورة والبحث الدائم عن الكرامة والحرية والعدالة ؛ فيتألق في مسرحية "ليلة مصرع جيفارا" للكاتب ميخائيل رومان وإخراج عبقري المسرح كرم مطاوع.. رائد التمرد على النمط المسرحي الذي كان سائدا منذ جورج أبيض ونجيب الريحاني ويوسف وهبي؛ ليبزغ نجم "ياسين" وينطلق بداخله شيطان الشعر إلقاء وكتابة من وحي ثقافته الواسعة وقراءاته التي شملت مجالات شتى؛ ليثبت أن الفنان بلا ثقافة موسوعية مثله كمثل شجرة بلا ظلال أو ثمر؛ فيلعب دور "البطل" في العديد من الأفلام أمام مشاهير النجوم والنجمات- على سبيل الأمثلة لا الحصر لضيق المساحة- يساعده في الانتشار والنجاح وتقدم الصفوف وأفيشات الإعلانات؛ الحالة المزاجية للإحساس الجمعي للشعب المصري بعد مرارة الهزيمة في العام الحزين ١٩٦٧؛ ليفتح ذراعيه- بحثا عن بطل- للقادم الجديد في عالم السينما والمسرح ؛ ليدخل من الباب الملكي ليصل إلى قمة جبل النجاح بمشاركته  سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في "الخيط الرفيع"؛ هذا الفيلم البالغ الروعة الذي يُعد التأكيد الفعلي لتثبيت أقدامه على طريق النجومية والشهرة والمجد في عالم الفن.

ولا أخفي سرا إذا قلت: إن هذا الفنان الجميل بوسامته وحضوره وما يتمتع به من كاريزما خاصة أخاذة كان "فتى أحلام" الذين "جايلوه" من المراهقين والمراهقات على السواء؛ كلُِ بتطلعاته وآماله وأحلامه ؛ ليس هذا فحسب.. بل فتح المجال بصوته الرخيم الذي ينشد الشعر بإيقاعاته الآسرة؛ إلى اندفاع الشباب الذي عاصر بداياته الفنية؛ لقراءة هذا الشعر من بين دفتي دواوين أصحابه مثل عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وغيرهم؛ وليصير هو الفنان الشامل الذي يترك التأثير الإيجابي في وجدان معاصريه؛ ليظل الإعجاب بفنه منذ ظهوره على الساحة في غبش وضباب الحرب والانكسار والانتصار.. حتى لحظات الوداع إلى مثواه الأخير؛ ولكنه سيظل علامة فارقة في تاريخ المسرح والسينما لعدة عقود مقبلة؛ فالشعوب لا تنسى من صنع لها السعادة والفرح وغمرها بالبهجة؛ وقام بتجسيد بطولاته ومعاركه منذ فجر التاريخ؛ فالبطل في عُرف الإحساس الجمعي.. لا ينهزم ولا يموت، وكذلك المبدع الحقيقي!

كلمة أخيرة.. أسوقها معاتبة إلى أصحاب الصفحات الإخبارية والفنية في أعمدة الجرائد والمجلات المصرية، لكل الأقلام التي تاجرت بمرض "الرجل" والإعلان عن حقيقة ونوع المرض الذي يكابده؛ غير عابئين بأن هذا "الدماغ" الذي استطاع أن يحتفظ بملايين القصائد الشعرية والنصوص المسرحية والمواقف الإنسانية؛ وحياته الشخصية بعيدا عن "خشبة المسرح" و"بلاتوهات السينما" ؛ يتطلب نوعا من الراحة والهدوء والاستقرار الذهني في ختام تلك الرحلة الطويلة، ولكنها صاحبة الجلالة الصحافة، مهنة النبش في صفحات التاريخ والمرض.. والإضاءة على مسارات زورق الحياة في نهر الأحزان. رحم الله فقيد الفن من زمنه الجميل!