رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماريا

سامرة أحمد المومني
سامرة أحمد المومني


اتكأت على وجعها بكامل ثقل خيباتها، قلبها الذى تقاذفته رياح الألم يهوى قلقًا، يتبعثر مرارة من مسامات جلدها الواسعة، غور يتوسد أحشاءها الداكنة.. ثمة خطوب حيرى تحيط بغضبه المكبوت، فرائصه ترتعد خلف نصوص هاربة يبتلعها مع ماء عينيه، هلوسات ليلية وأحلام شيطانية تعقب تخمة أسئلة عطشى تغيب فى صدره بين يوم وآخر، تومض عينيه ساعة ظلم، أوقعه قصدًا على قلب حواه بين أضلعه القوية، وترصد خلف شاطئ ظمآن إلى الحقيقة.. إلى الحقيقة فقط.
وجهها.. وجهها غادره الألق منذ أعوام، كساه الكلف والنمش اللذان خلفتهما الطبيعة فيه، بعد أن أنجبت طفلتها الشقراء التى توحدت مع عالمها وتركتها وحيدة مع عالمها أيضًا. تأملت نفسها وهى تلامس وجهها بأصابعها المرتعشة فى المرآة الوحيدة فى البيت.
قرأت ذات ليلة كان القمر فيه غائبًا نوره.. أسود: هناك أسباب كثيرة للتوحد، قد يكون مثلًا: حزن ألمّ بأحد الزوجين أو كليهما قبل إنجاب الطفل المتوحد. أى حزن عميق استوطنها قبل مولدها، أى حزن ألحقه بها.. أسمتها ماريا وأسماها مارى، صرخت بنفسها ذات بؤس: شىء يثير السخرية حقًا.
تخاطبه بالإيماءة والإشارة وكلمات تقولها ووجه ينعم بسلام وصمت عميق وهى تلعب بلعبتها: نعم، تارة، ولا، تارة أخرى، وفى أغلب الأحيان لا شىء. يتسكع زاهر أمدًا طويلًا من مساء أبى الرحيل على هاتفه النقال، يطوف عوالمه الإلكترونية الملونة، وينسى أنها بجانبه على قيد الحياة، تحادث نفسها غضبًا: سحقًا لـ«الفيسبوك» و«الواتس آب» و.. و.. مواقع الانفصام الاجتماعى، سحقًا لكل الأصدقاء المزيفين، الذين يسرقونك من حاضرك، يجعلونك فى المجالس الافتراضية مجرد.. أضحوكة، أضحوكة لا غير.
فى يوم تشرينى عاصف، قاسٍ، أطل برأسه الذى تسلل إليه الشيب خفية عن عينيها الكئيبتين على الدوام، عضلات وجه منكمشة، متوترة، رقبته كأنها تشكو تشنجًا عنيفًا، لم يبادرنى السلام البارد المعتاد. ظللت صامتة.. قدمت له وجبة الغداء كعادتها عند عودته تائهًا عنها، فدفعها بعيدًا عنه وأشاح بوجهه عنها بقسوة.. ونادى بصوته الجهورى: مارى مارى.. تعالى إلى هنا.. صرخت به من غير صوت: ما أسذجك، أو ماريا تسمعك؟ إنها ترسم على لوحها الأبيض، لا تسمع أيًا منا ولا ترى أيًا منا، على الرغم من أنها تسمع وترى.
ماريا تبلغ من العمر ست سنوات، ماريا تعيش فى عالمها فقط، مسكينة ماريا، أنظر إليها كل يوم وهى تدور حول لعبتها بخوف أن تفقدها، تتقوقع على نفسها فى زاوية غرفتها إن داهمها الحزن فجأة، وتحرك يديها بشكل دائرى إن أرادت أن تعبر عن غضبها، لا تنظر إلىّ إن ناديتها باسمها، ولا تجيب إلا إذا حركت كتفيها، تلوذ بالصمت وألوذ أنا بالفرار من كل شىء. أحسست أن هناك مشكلة ما عندما تأخرت فى نطق بعض الكلمات مثل: بابا، ماما وهى فى عمر العامين وأكثر، لم يجىء على بالى أنها مصابة بـ«التوحد».
قال مرتبكًا مترددًا وهو يلامس شعره بأصابعه، وعيناه تنظران للأسفل تارة وباتجاه البعيد تارة أخرى: سنرسل مارى إلى مركز خاص لعلاج التوحد مطلع الأسبوع القادم، سيشرف عليها طبيب وفريق مختص فى التعامل مع الأطفال الذين يعانون منه، ستمكث هناك فترة من الوقت شهرًا أو أكثر، لن نراها خلال الفترة، وأقترح أن.. أن تذهبى فى تلك الفترة لقضاء بعض من الوقت مع أهلك، سيسرون لرؤيتك معهم. نظر إلىّ نظرة لا تخلو من الغرابة، حاول أن يفض مغاليق وجهى، اصطدم ببئر جافة، لكنه لم يعلم أنها فوهة لبركان سيثور إن لامس الغليان السطح. راودنى الصمت عن نفسه ولم أقل شيئًا البتة.
كان زاهر يتركنى طيلة اليوم وحدى بعد زواجنا البائس، يعود غاضبًا يأكل وينام، لا يكلمنى إلا إذا أراد شيئًا، جذوة الحب التى أشعلها القدر سريعًا أطفأها سريعًا أيضًا، تعلقت بالقراءة فى غيابه وإهماله لى فأحببتها أكثر منه، وعندما حملت بماريا لم أفرح كثيرًا، من أشهرها الأولى، تعلقت بالتلفاز والصور الملونة والرسوم المتحركة والأغانى ذات الإيقاع السريع، ووجدت فى ذلك منفذًا للهروب من مسئوليتى نحوها، أدمنت القراءة والوحدة، وأدمنت ماريا التلفاز والوحدة أيضًا، كان خالد لا يلاعبها إلا قليلًا جدًا، وكأنها غريبة عنه، وغريبة عنى أيضًا.
تذكر ذاك اليوم الذى أحست فيه أن حبه لها تحول إلى كره مقيت، كانت الأيام التى تسبق زواجهما جميلة جدًا، يخططان لكل شىء، ثوب العرس، بدلة العريس، صالة الاحتفالات، الورد الأبيض والأحمر وبيتهما الصغير، يخططان لكل شىء بحب سويًا.. لم يكن ذنبى الذى حصل قبل زفافنا، لكنه مشيئة القدر، شاء خالد أن يحملنى مسئوليته كاملة، فحل الخراب فى نفسى وفى قلبه، وتحول الثوب الأبيض إلى ثوب حداد، وعشنا فى مأتم بدلًا من ثلاثة أيام سبعة أعوام ونيف. تسربت الذكريات التى احتجزتها طويلًا فى كهف ذاكرتها لزجة، دبقة، لا تعرف منها فكاكًا.
توفى عادل أخو خالد ذاك اليوم المشئوم- يوم زفافنا- توفى هو وزوجته وأولاده الأربعة فى حادث سير على الحدود السعودية- الأردنية قبل موعد الزفاف بساعتين، فانقلب الزفاف إلى حزن أسود مغموس بالدم، فاجعة كبيرة ومصاب جلل حلّ بنا جميعًا، ما زلنا حتى هذه الساعة ندفع ضريبة فرح ناقص، بل لم نتذوقه فى الأصل.
مسكينة ماريا..
هذا الفجر جاء نديًا، رطبًا، الضباب متدفق، معلق بين السماء والأرض، نسمات باردة تلامس روحى الثكلى، ثمة مستقبل آتٍ.. رأيت ماريا تنظر لكلينا نظرة ملؤها الحنان، لم أر ذاك قبلًا تضم بقوة لعبتها الصغيرة، طوقتها بذراعى وحضنتها بقوة.. وكأننى أم لأول مرة، نظرت بعينيها وعزمت ألا أتركها وحيدة كما هى فى عالمها، حزمت حقيبتها الصغيرة وحزمت حقائبى وأمرى، أعلنت قرارى بصوت مسموع هذه المرة عند خروجى من البيت غير ملتفتة خلفى: لن نعود.. لن نعود أنا وماريا إلى تلك الجدران الباردة بعد اليوم.