رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فتاة المعادى



جاء فى تقرير النيابة أنها انتقلت لمناظرة جثمان فتاة قتيلة فى المعادى، فلم تجد النيابة سوى «آثار دماء ملطخة بالرمال قرب إحدى السيارات».. بقايا دماء ملطخة بالرمال هذا كل ما تبقى من شابة جميلة هى مريم، لم تتجاوز الرابعة والعشرين، تعمل فى أحد البنوك.
كانت مريم تستعد للزواج، فلم يبق منها سوى «بقايا دماء ملطخة بالرمال»، بعد أن خرجت مع صديقة لها يوم الثلاثاء ١٣ أكتوبر، ومشيتا تثرثران حول أحلام الفتيات العذبة، فإذا بسيارة ميكروباص بيضاء اللون، بلوحة معدنية مطموسة المعالم، يستقلها اثنان، تأتى من الخلف، ويمد المرافق الجالس بجوار السائق يده لينتزع حقيبة مريم التى كانت تعلقها على ظهرها، لكن الحقيبة لم تنخلع بسهولة، وجرت مريم مع السيارة التى تجرى، فاختل توازن الفتاة وارتطم رأسها بمقدمة سيارة ملاكى واقفة فى الشارع، ومن شدة الضربة طار جسد مريم فى الهواء عدة أمتار، ثم هوت على الأرض وفارقت الحياة قبل وصول الإسعاف.. وبذلك لم يبق من الآمال الشابة والأحلام والثرثرات البريئة عن الحب، سوى «آثار دماء ملطخة بالرمال».
بالطبع تمكنت الشرطة من إلقاء القبض على المجرمين الاثنين، وتم حبسهما للتحقيق معهما بتهمة القتل المقترن بالسرقة بالإكراه.. لكن أشد درجات العقاب ولو كانت الإعدام ليست كفيلة بنزع جذور التحرش والقتل والعنف الموجّه إلى المرأة، لأن المشكلة أكبر من مجرمين اثنين، لا يجدان بأسًا فى الهجوم على الفتيات ولو أدى ذلك لقتلهن.
الإجراءات القانونية وحدها لن تحل مشكلة نظرة التحقير والاستهانة بالمرأة، فهذه مشكلة كان لا بد لوزارتى الثقافة والتعليم أن تسهما بقسط لحلها، هى مشكلة ثقافة تاريخية متوارثة تسبح فى أفق مما يردده الدعاة الإسلاميون الجهلاء، والخطاب الذى يرى أن المرأة هى أساس الفساد، فيخرج علينا أولئك الدعاة كل يوم بتحقير المرأة التى ترتدى ما يعجبها، وينادون بإلزامها البيت لكى لا تثير غرائز الرجال، وهكذا، بدلًا من تربية الرجل الحيوان الذى لا يستطيع التحكم فى غرائزه فإن علينا، وفقًا للدعاة، أن نقتل ما يثير غرائزه، أى المرأة! فنلزمها اعتزال الحياة، والقعود فى البيت، والكف عن العمل وعن نشاطها الاجتماعى، أى نقوم بتحويلها إلى قط أو ببغاء فى قفص بلا عقل ولا تجربة ولا شعور ولا علم.
ومن الطبيعى فى ظل تلك النظرة أن يعلق أحدهم فى «فيسبوك» على قتل مريم بقوله: «لو أن هذه الأخت لم تكن تعمل، وكانت قعدت فى بيتها معززة مكرمة كان ممكنًا جدًا ألا يحدث لها ذلك».. فى ظل هذا الخطاب المنحط، الذى يوجه الاتهام للمرأة منذ اللحظة الأولى، يكون من السهل على كل مجرم أن يعتدى على المرأة أو يتحرش بفتاة، لأن هناك تبريرًا نظريًا قائمًا فى ذهنه وفى وجدانه يهيئه للعدوان.
ويظهر قتل مريم مقترنًا بحوادث أخرى فى التوقيت ذاته، فقد قام فى الإسماعيلية أربعة رجال، بينهم مسجل خطرًا، بالهجوم على رجل وزوجته فى مقابر الإسماعيلية، شلّ ثلاثة منهم حركة الرجل، وقام الرابع باغتصاب الزوجة تحت تهديد السلاح الأبيض.. هناك فى كل ذلك تلك الاستهانة، وذلك التحقير الضمنى للمرأة وقيمتها، ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة من أهمها التعليم الذى لا يلقن الطفل منذ الدرس الأول أن المرأة هى شجرة الحياة، وهى الأم والأخت والزوجة والصديقة والزميلة، وطالما طالبتُ بأن يكون هناك كتيّب خاص بهذا الموضوع فى التعليم.. وهناك أسباب أخرى للنظرة التى تحقّر المرأة، منها أن عمل المرأة المنزلى بلا سعر فى سوق السلع، فهى تطبخ وتكنس وتتولى كل شئون البيت، وتلك كلها جهود ومشقة بلا سعر فى المجتمعات الرأسمالية.
والمؤكد أن الفقر والسرقة والتحرش بالمرأة ظواهر تلازم مجتمعات كثيرة بما فى ذلك المجتمعات الأوروبية، لكن البلدان العربية تأتى فى المقدمة لتسجل تفوقها ولو فى ذلك المجال، وحسب تقرير أعدته وكالة «رويترز» فى عام ٢٠١٠، فإن مصر تعد الأسوأ من بين دول العالم فى موضوع التحرش بالنساء.. وحسب تقارير أخرى، فإن نحو ٩٩ بالمئة من المصريات تعرضن للتحرش بدرجة أو بأخرى، وشغلت العراق المركز الثانى والسعودية المركز الثالث.. فى كل الأحوال نتمنى أن نصحو على يوم تمشى فيه الفتيات بحرية فى الشوارع آمنات، يذهبن إلى أعمالهن ويعدن إلى بيوتهن، ترافقهن الأحلام وتبقى لنا منهن المحبة، وليست الدماء المختلطة بالرمال على الأسفلت.