رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ بكرى الصدفى.. ثالث مفتٍ للديار المصرية



الشيخ بكرى الصدفى هو ثالث مفتٍ للديار المصرية. تولى المنصب فى الفترة «١٥ نوفمبر ١٩٠٥م - ٢١ ديسمبر ١٩١٤م». وُلد بصدفا بمحافظة أسيوط، وشب فى أسرة كريمة مشهورة بالتقوى والصلاح والعلم، فكان أبوه الشيخ «محمد عاشور الصدفى» من خيرة رجال العلم المشهود لهم بسعة العلم والاطلاع، فتأثر فضيلة الشيخ بكرى بأبيه، وأخذ عنه الكثير من علمه وفضله، وبعد أن حفظ القرآن الكريم وأتقن تجويده التحق بالأزهر الشريف، واستمر يدرس حتى نال الشهادة العالمية من الدرجة الأولى. كُلف فضيلته بالتدريس فى الأزهر من فضيلة الشيخ «محمد المهدى العباسى» شيخ الأزهر وقتها، بالإضافة إلى حلقات الدروس التى كان يلقيها على تلاميذه فى منزله المجاور للجامع الأزهر، ثم عُين موظفًا بالقضاء، وأخذ يتدرج فى المناصب القضائية حتى شغل معظمها.
فى ١٥ نوفمير سنة ١٩٠٥م عُين فضيلته مفتيًا للديار المصرية بعد فضيلة الإمام الشيخ محمد عبده، واستمر يشغل هذا المنصب حتى ٢١ ديسمبر سنة ١٩١٤م، أصدر خلالها ١١٨٠ فتوى مسجلة بسجلات دار الإفتاء. كان للشيخ بكرى الصدفى موقف برفضه إقرار حكم إعدام إبراهيم ناصف الوردانى الشاب الذى أطلق النار على بطرس باشا غالى- رئيس وزاراء مصر- فأرداه قتيلًا، واستخدم الشيخ لرفض حكم محكمة الجنايات برئاسة القاضى الإنجليزى حجة محامى الدفاع وهى اختلال القوى العقلية للوردانى!
من الأغانى التى فرح بها المصريون ثم أغضبتهم أغنية: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن حبيب القلب صابح ماشى»، أحد أشهر الأغانى المصرية التى حفظت فى ذاكرة ووجدان المصريين، والتى غنتها الفنانة شادية عام ١٩٦٦ من كلمات الشاعر مجدى نجيب، وألحان بليغ حمدى. تلك الأغنية التى حفظتها الأجيال، جيلًا بعد جيل، لم يدرك الكثيرون قصتها، وما صاحبها من كلماتها من قصص على مر السنين، بداية من حادثة دنشواى عام ١٩١٠، وحتى إن أوقفتها الحكومة المصرية لفترة زمنية معينة عقب نكسة ١٩٦٧.
عقب حادثة دنشواى عام ١٩١٠، قام الشاب المصرى إبراهيم الوردانى، الذى كان يلقب بـ«غزال البر» بقتل بطرس باشا غالى، بعد أن صادق على أحكام محكمة دنشواى بإعدام ٦ فلاحين مصريين، لقتلهم جنودًا بريطانيين بعد أن قتل الجنود فلاحة مصرية خلال صيدهم الحمام بالقرية. جريمة القتل التى ارتكبها الوردانى، حقق فيها عبدالخالق باشا ثروت الذى كان يشغل منصب النائب العام وقتها، حتى حُكم عليه بالإعدام، ورفض المفتى الشيخ بكرى الصدفى التصديق على الحكم، وكانت أول مرة فى التاريخ يعترض المفتى على التصديق على حكم إعدام، حتى اضطرت الحكومة لتنفيذ حكم الإعدام من دون موافقة المفتى. وهنا يسجل لنا الأستاذ مصطفى عبيد بجريدة الوفد بتاريخ ١ سبتمبر ٢٠١٩، ما يلى: «كيف نفرق بين البطل والإرهابى؟ سؤال متشابك يُلح علىّ كلما أوغلت فى تاريخ العنف السياسى فى بلادى. هل قاتل المصرى بطل أم إرهابى؟ وهل الحاكم بخيانة مسئول أو وزير فى زمن الاحتلال يُمكن أن يُصنف كبطل؟ أليس القتل قتلًا؟ وأليس إزهاق أرواح العزل جريمة؟ خذوا مثلًا قاتل بطرس باشا غالى رئيس الوزراء المصرى سنة ١٩١٠، وكان صيدلانيًا يُدعى إبراهيم الوردانى، وقد أطلق على الرجل الرصاص غدرًا فأسقطه صريعًا، ولما سئل عن دافعه قال إنه حكم بخيانة الرجل. وحكمت المحكمة بتحويل أوراقه إلى فضيلة المفتى وكان الشيخ بكرى الصدفى، فقرر رفض إعدامه تعاطفًا معه، لكن المحكمة أصرت على موقفها وتم إعدام الرجل. لكن الحس الشعبى المُسير بالمشايخ الذين يحفظون ولا يتدبرون وقتها اعتبر القاتل بطلًا، بل وأسماه شهيدًا، ووزعت صوره على المقاهى، وأطلق الناس اسمه على مواليدهم. نفس الأمر جرى مع محمود العيسوى قاتل أحمد باشا ماهر، ومع حسين توفيق قاتل أمين باشا عثمان خلال الأربعينيات وصولًا إلى أحمد عبدالمجيد قاتل محمود فهمى النقراشى باشا، والذى كتب فيه يوسف القرضاوى شعرًا لتمجيده قال فيه: عبدالمجيد تحية وسلامًا.. أبشر فإنك للشباب إمامًا.. سممت كلبًا جاء كلبٌ بعده.. ولكل كلبٍ عندنا سمام». أسماء عديدة على مدى تاريخنا حازت لقب «بطل» رغم أن أفعالها قائمة على الغدر والخسة، ربما أبرزها الجندى الشهير سليمان خاطر الذى قتل سياحًا إسرائيليين عُزلًا نصفهم من الأطفال فى سيناء خلال الثمانينيات، وعندما مات محبوسًا فى ظروف غامضة أطلق عليه الحس الشعبى لقب «شهيد» مثلما أطلق من قبل اللقب نفسه على حسن البنا، وأدهم الشرقاوى وخالد الإسلامبولى. ما هو الحس الشعبى؟ مَن هو الذى أطلق ولمَ وكيف؟ لا أحد يدرى، لكن تلك إحدى مفارخ الإرهاب الدائمة: أن تُبطل القتلة، وتُعظم الغادرين، أن تمتدح أعداء الحياة وتصفق للعمليات الانتحارية ما دامت موجهة ضد من لا نحب، أن تُسمى الأشخاص بغير مسمياتهم ترويجًا لشريعة الغاب. هناك خيط رفيع بين البطل والإرهابى. البطولة نُبل، تضحية، البطولة إحياء لا إماتة، بعث للطمأنينة لا نشر للفزع. البطل يحارب دفعًا لمعتد، يحمى ضعفاء، ويُنقذ أرواحًا، لكن الإرهاب قُبح وغدر وغيلة وشر مستطير، الخلط بينهما جريمة، لكنها للأسف تمر مرور الكرام فى ظل غوغائية التكلم، وعشوائية الفكر.
بعد صدور حكم الإعدام خرجت الجماهير فى مظاهرات حاشدة للتنديد بالحكم، مرددة «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن عزيز البر صابح ماشى» قاصدين الشاب المصرى إبراهيم الوردانى. وفى عام ١٩١٩ وبعد قرار اعتقال سعد باشا زغلول، خرجت الجماهير المصرية مرة أخرى منددة بقرار الاعتقال، مرددة، «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن زعيم الوفد صابح ماشى»، لتصبح تلك المقولة تردد مع سفر ووداع كل عزيز. ورغبة فى الحنين إلى الماضى، قرر الكاتب والشاعر مجدى نجيب دخوله مجال كتابة الأغانى فى عام ١٩٦٦ بكتابة تلك الأغنية، بعدما طلب منه الملحن الكبير بليغ حمدى، كتابة أغنية للفنانة شادية، خاصة لما عرف عن «نجيب» حنينه الدائم فى الكتابة إلى الماضى، حتى كتبها وعرضها على بليغ حمدى لأول مرة، الذى أدخل تعديلات عليها لتتماشى مع اللحن الذى وضعه «حمدى». بعد فترة من كتابة الأغنية وصف الكاتب مجدى نجيب، فترة كتابتها بالصعبة، خاصة أنها أول مرة يكتب فيها تحت ضغط الالتزام باللحن، وهى المرة الأولى فى تاريخه التى يكتب فيها كلمات بغرض الغناء. حدث بعد هزيمة نكسة يونيو عام ١٩٦٧، سرقت إحدى المغنيات الإسرائيليات كلمات الأغنية، وزيفتها بطريقة هزيلة تسخر فيها من هزيمة النكسة، بعد أن غيرت فى كلماتها: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لاحسن الجيش المصرى صابح ماشى»، والتى أثارت غضب المصريين. بعد سرقة المغنية الإسرائيلية كلمات الأغنية، أصدرت الحكومة المصرية قرارًا بوقف إذاعتها، خاصة بعدما غضب الكثير من المصريين من عمليات السرقة والتدليس التى قامت بها إسرائيل، حتى هدأت الأوضاع وتمت إذاعة الأغنية مرة أخرى لتظل باقية فى وجدان المصريين.
وفى ديسمبر ١٩١٩ توفى الشيخ بكرى الصدفى.