رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرب الغاز والصراع على «ناجورنو كراباخ»




منتصف يوليو الماضى نشبت اشتباكات دامية بين أذربيجان وأرمينيا، الأخيرة كانت صاحبة المبادرة، وكبَّدت الأولى خسائر ثقيلة.. الطيران التركى أجرى مناورات «النسر التركى الأذرى» العسكرية مع نظيره الأذرى من ٢٩ يوليو حتى ١٠ أغسطس.. الجيش الروسى بدأ مناورات مشتركة مع القوات الأرمينية ٣١ يوليو، امتدت من فولجوجراد إلى روستوف وأرمينيا، شارك فيها ١٥٠ ألف جندى و٤٠٠ طائرة.. تجددت الاشتباكات وشملت إقليم «ناجورنو كراباخ» المتنازع عليه.. والأخطر أنها امتدت إلى مناطق استراتيجية حاكمة للبنية الأساسية لشبكات نقل الغاز والسكك الحديدية من بحر قزوين إلى أوروبا.. القوقاز على سطح صفيح ساخن.
الحرب بين أرمينيا وأذربيجان بدأت ١٩١٨، بسبب رغبة الأولى فى ضم منطقة «ناخيتشيفان» التى تقع فى قلبها جغرافيًا، بادعاء أغلبية العنصر الأرمينى الأرثوذكسى، لكن أذربيجان أكدت غلبة العنصر الأذرى الشيعى.. الاتحاد السوفيتى تدخل وألحق المنطقة بأذربيجان وضمهما للاتحاد!، كما منح «ناجورنو كاراباخ» حكمًا ذاتيًا، وضمها إداريًا لأرمينيا «يوليو ١٩٢٣».. هذه القسمة ولدت صراعًا محتدمًا بين الأذريين والأرمن، ازدادت حدته عقب سقوط الاتحاد السوفيتى، ومحاولات تركيا تأسيس روابط وثيقة مع الجمهوريات التركية المستقلة حديثًا عن موسكو، بحجة إعادة لم شمل العرق التركى من الأناضول حتى آسيا الوسطى، مما فجر حروبًا وصراعات دامية، اتخذت أبعادًا دولية عندما أصبحت تدور حول النفط والغاز الذى يتم تصديره إلى أوروبا، أكبر الأسواق الاستهلاكية فى العالم.
تركيا تستورد ٩٨٪ من احتياجاتها من الغاز و٩٢٪ من النفط.. إيران وروسيا كانتا مصدر الغاز الرئيسى إلى تركيا وأوروبا خلال السنوات الماضية، لكن أذربيجان بدأت تأخذ مكانهما.. الأخيرة تعتبر أكبر محطة إنتاج ونقل للطاقة جنوب القوقاز.. تمتلك حقلى غاز «شاه دنيز١» طاقته الإنتاجية ٨ مليارات متر٣عام، و«شاه دنيز٢» نحو ١٦ مليارًا، عشرة مليارات منها مخصصة لأوروبا وستة لتركيا.. وهناك عدة مشاريع استراتيجية للنقل.. الأول: خط أنابيب غاز «تاناب» تم تدشينه ٢٠١٢، لنقل غاز أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا، ويتصل قرب الحدود التركية الأوروبية مع خط «تاب» القادم من موسكو، ليصبح شريانًا مهمًا لتغذية أوروبا بالغاز الطبيعى.. الثانى: من العاصمة الأذرية باكو، إلى تبليسى عاصمة جورجيا، ومنها إلى ميناء جيهان التركى جنوبًا، لنقل نحو ٨٠٪ من صادرات أذربيجان من النفط إلى أوروبا «١.٢ مليون برميليوم»، تمثل أكثر من ١٪ من إمدادات النفط العالمية.. الثالث: سكك حديد باكو التى تمر من «توفوز» إلى تبليسى، ومنها حتى قارص التركية، التى تنوى أنقرة ربطها بالبحر المتوسط، ومد مزيد من خطوط السكك الحديدية إليها.. هذا الخط يندرج ضمن مشروع «طريق الحرير» الصينى، ويستهدف الوصول بحركة المسافرين من الصين لأوروبا إلى مليون سنويًا، والبضائع إلى أكثر من ٦ ملايين طنعام.. وأخيرًا هناك خط أنابيب «باكوسوبسا» الذى يتجه إلى جورجيا عبر البحر الأسود ومنها لأوروبا.
تركيا قدمت مساعدات مباشرة للمشاريع التنموية فى أذربيجان تزيد عن ٣٢٠ مليون دولار منذ ٢٠٠٤.. حجم التبادل التجارى بين الدولتين عام ٢٠١٩ بلغ ٤.٥ مليار دولار، وهناك خطط لزيادته إلى ١٥ مليارًا بحلول ٢٠٢٣، و٢٦٦٥ شركة تركية تستثمر فى أذربيجان.. أنقرة اتجهت للاعتماد على باكو كمصدر رئيسى للطاقة، للاستفادة من انخفاض أسعارها مقارنة بنظيرتها الروسية، خاصة أن أذربيجان واحدة من كبار المستثمرين فى قطاع الطاقة بتركيا، مما أدى إلى زيادة كميات الغاز المستورد منها عام ٢٠١٩ بنسبة ٢٣.٤٪، مع تخفيض الاعتماد على روسيا فى تلبية احتياجاتها الغازية بنسبة ٤٤.٨٪، وخفض استيرادها من إيران بنسبة ٤١.٥٪ وذلك فى النصف الأول من ٢٠٢٠.. أنقرة تتطلع لتعميق شراكاتها مع باكو بعد انتهاء عقد الغاز الرئيسى مع روسيا ٢٠٢١، الذى تلتزم بموجبه بشراء كمية محددة من الغاز سنويًا، مما يفسر تعثر مفاوضات التجديد بين الدولتين فى أبريل ٢٠٢٠، نتيجة رفض موسكو تخفيض سعر بيع الغاز لتركيا.
الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان وقعت فى مدينة «توفوز»، ذات الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية الكبيرة لأنقرة، نظرًا لمرور خط تصدير الطاقة إلى أوروبا «باكو، تبليسى، ميناء جيهان» عبرها، مع اقترابها الشديد من خط أنابيب القوقاز «تاناب»، القادم من بحر قزوين ويصل أوروبا عبر تركيا، مما يعكس تلويحًا بإمكانية سيطرة أرمينيا على طرق نقل النفط والغاز والسكك الحديدية التى تمر عبر الإقليم، أو على الأقل تعطيل الصادرات، كنوع من الضغط على أذربيجان لصالح موسكو، ومحاولة منعها من الاستحواذ على السوق التركية بشكل كامل.

مواقف القوى الدولية من المواجهة بين أرمينيا وأذربيجان تثير الدهشة وتحركها المصالح.. أذربيجان بالنسبة لتركيا عضو فى المجلس التركى الذى أنشئ عام ٢٠٠٩ ليضم عددًا من الدول الناطقة بالتركية «طاجيكستان، قيرغيزستان، تركمانستان، أوزباكستان، وأذربيجان».. تركيا تسعى لتخفيف الاعتماد على واردات الطاقة من روسيا وإيران، للتخلص من عبء الارتهان إليهما، خاصة أن سياساتها وتدخلاتها الخارجية تتقاطع بصورة حادة معهما فى سوريا، كما تتقاطع مع روسيا فى ليبيا، فضلًا عن مناطق أخرى وإن كانت أقل حدة، لذلك فإن الضغط على أذربيجان من بوابة أرمينيا يدخل بصفة أساسية ضمن حسابات الطاقة.
روسيا ترى أن المصلحة الوطنية تفرض عليها إبقاء أذربيجان تحت ضغط مستمر، لأنها إبان مرحلة تفكك الاتحاد السوفيتى تحولت إلى قاعدة للأنشطة المعادية لموسكو، وفتحت الباب لتركيا عضو حلف «ناتو»، لمد نفوذها إلى آسيا الوسطى والقوقاز بذريعة وحدة الشعوب التركمانية، لكن روسيا رفضت المشروع خوفًا من تمدّد الحلف إلى تخومها.. حتى إيران حاولت آنذاك بعث مشروع قومى فارسى أو شيعى المذهب بالمنطقة لحساب الغرب.. أما أرمينيا فهى عضو بـ«منظمة معاهدة الأمن الجماعى» التى أنشئت عام ١٩٩٢ لتضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتى المستقلة، فى مواجهة حلف «ناتو» بمنطقة «أوراسيا»، كما انضمت عام ٢٠١٤ إلى الاتحاد الاقتصادى الأوراسى، ولديها أكبر جالية داخل روسيا «قرابة ٢ مليون»، ما يسمح لها بالتأثير على القرار السياسى الروسى.
أرمينيا على هذا النحو تعتبر ورقة مهمة لروسيا فى الصراع الدائر مع تركيا، للتحكم فى أنابيب النفط والغاز الخاصة ببحر قزوين، التى تتقاطع خطوطها فى أذربيجان، وتقع فى مرمى القوات الأرمينية، ومن خلفها القواعد التى شيدتها روسيا ضمن اتفاق التعاون الأمنى مع أرمينيا، بمنطقتى إربونى «Erebuni» وجيومرى «Gyumri» داخل أرمينيا، قرب الحدود التركية، كما أن الطائرات الروسية تتولى تأمين المجال الجوى الأرمينى.. استمرار الصراع يحقق مصلحة موسكو، لأنها تبيع السلاح للدولتين، لكنها قدمت لأرمينيا عام ٢٠١٦ قرضًا لشراء أسلحة تدعم تفوقها على أذربيجان، كما قدمت شحنات كبيرة فى صورة منحة، وخصتها بأسلحة أكثر تطورًا، مثل طائرات «سوخوى ٣٠» ونظام «إسكندر» المتطور للدفاع الجوى، الذى هددت أرمينيا باستخدامه.. القوات الروسية شاركت فى العديد من المناورات العسكرية بأرمينيا، فضلًا عن امتلاكها نحو ٤٠٪ من الاستثمارات الأجنبية فيها.
تأييد إيران المسلمة الشيعية أرمينيا المسيحية الأرثوذكسية، لا علاقة له بالدين ولا بالطائفية، وإنما حرصًا على ممارسة ضغط على أذربيجان يشغلها عن محاولة تشجيع أى حراك انفصالى للأقلية الأذرية داخل إيران، خاصة أن هذه الأقلية التى تمثل قرابة خُمس عدد السكان سبق أن أعلنت استقلال مقاطعة أذربيجان شمال إيران عام ١٩٤٥، وظلت لمدة عام إلى أن تدخل الجيش بدعم أمريكى آنذاك للقضاء على التمرد.. حاليًا تسعى إيران للضغط على أوروبا لمنع تجاوبها مع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها وتسعى لتخفيفها، فضلًا عن الضغط على تركيا للتخفيف من توجهها نحو استيراد مصادر الطاقة من أذربيجان بدلًا منها.
إسرائيل تنحاز لتركيا فى دعمها أذربيجان، وهى ثالث أكبر دولة مصدرة للسلاح إلى أذربيجان، خاصة فيما يتعلق بالطائرات دون طيار، وقد أبرمت باكو اتفاقيات تسليح مع إسرائيل بقيمة ٥ مليارات دولار خلال السنوات القليلة الماضية.. إسرائيل اتجهت أيضًا للاعتماد على أذربيجان كمصدر رسمى للنفط، حتى لا تظل تعتمد على التهريب من مصادر غير مضمون انتظامها، وذلك من خلال خط أنابيب «باكو، تبليسى، ميناء جيهان التركى»، ومن الأخير يتم الشحن إلى إسرائيل، وتسعى الأخيرة إلى أن تصبح وسيطًا لتصديره مستقبلًا إلى أوروبا أو شحنه إلى إيلات ثم نقله إلى آسيا، وهذا يعكس عمق التنسيق وتبادل المصالح بين تركيا وإسرائيل، رغم الطنطنة الإعلامية.
أما أمريكا فهى تبارك خطوات تركيا عن بُعد، لعلها تشكل مزيدًا من الضغط على روسيا، وتقيد حركتها فى المنطقة، لكنها منشغلة فى الانتخابات، مما يعتبر عاملًا مهمًا فى اختيار توقيت تصعيد الأزمة، الأمر الذى يفرض على أردوغان محاولة التوصل إلى تفاهمات مع روسيا وإيران، تضمن تدفق غازهما إلى السوق التركية، لأن البديل خوض حرب ضروس لإبعاد الأرمن عن خطوط النقل فى «توفوز»، دون أى ضمانات لتداعياتها على موسكو ولا نتائجها النهائية.
ميزانية دفاع أذربيجان تتجاوز ٢.٨ مليار دولار مقابل ١.٣ مليار لأرمينيا، وقواتها المسلحة أكثر من ضعف نظيرتها فى أرمينيا، وعدد السكان يتجاوز ثلاثة أضعاف، لكن التوازنات العسكرية يصعب حساب نتائجها بناء على عوامل القوة الذاتية للدول، طالما توجد قوى دعم خارجى مثل روسيا وتركيا متورطة بشكل كامل ومباشر فى النزاع، بل إن وجود القواعد العسكرية الروسية على أراضى إقليم «ناجورنو كراباخ»، ينبغى أن يوضع كعنصر رئيسى فى حسابات التوازن العسكرى، لأنها تفرض على موسكو الدفاع عن تبعية الإقليم لأرمينيا حفاظًا على مصالحها.
مصر تجمعها علاقات قوية مع أرمينيا، حتى إن رئيسها حضر العرض العسكرى الذى أقيم خلال افتتاح قاعدة برنيس العسكرية، وهناك متابعة مصرية عن كثب لجميع تطورات الموقف، تنطلق من رفض التدخل العسكرى التركى، الذى تعددت ميادينه فى جميع الصراعات الدائرة بالدول المحيطة «ليبيا، سوريا، العراق...»، مما يؤدى إلى تفاقمها، ويهدد السلم والأمن الدوليين.