رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس «أيلول الأسود» المنسى


الأيام السوداء، التى عاشتها المملكة الأردنية، منذ نصف قرن، كادت تتكرر فى دولة الإمارات، منذ أيام، لو استجاب خمسة أو عشرة آلاف من ٤٠٠ ألف فلسطينى، يقيمون فيها، لدعوات تحريض انطلقت، خلال اجتماع الرئيس الفلسطينى محمود عباس، بأمناء وقادة الفصائل الفلسطينية، الذى انعقد عبر «الفيديو كونفرانس»، بين بيروت ورام الله، فى ٣ سبتمبر الجارى.

كما رفض الفلسطينيون قبل أسابيع اتفاق السلام الإماراتى الإسرائيلى، رفضوا منذ ٥٠ سنة قبول مصر «مبادرة روجرز»، وليام روجرز، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، بوقف إطلاق النار لمدة ٩٠ يومًا ودخول الطرفين فى مفاوضات. وتسبب تأييد ملك الأردن للموقف المصرى فى اشتباكات مسلحة، أردنية فلسطينية، شهدها شهر سبتمبر «أيلول» ١٩٧٠، الذى صار معروفًا باسم «أيلول الأسود»، وشاء القدر أن تكون تلك الأيام السوداء هى آخر همّ عربى، يتحمّله ويحتويه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، قبل ساعات من انتقاله إلى رحمة ربه.
امتيازات كثيرة، لم تتكرر، حصل عليها الفلسطينيون فى الأردن، لكنهم فشلوا فى الحفاظ عليها، أو على وحدتهم، وانقسموا إلى منظمات وتنظيمات، سرعان ما سقطت وتسببت فى زيادة معاناة الفلسطينيين. وقبل أن تصب لعناتك على الملك حسين، عليك أن تحاول الإجابة عن أسئلة صعبة عديدة من عينة: هل من حق الضيف أن يحاول الاستيلاء على بيت المضيف ويفرض سيطرته عليه وعلى أهله؟ وإلى أى مدى يمكن أن تتسع حدود الصبر لاحتمال ذلك الضيف؟
الصبر، كان نصحية جمال عبدالناصر للملك حسين، خلال لقائهما فى قصر رأس التين بالإسكندرية، يوم ٢١ أغسطس: «أرجو أن تأخذهم بالصبر حتى لو غلطوا من أجل شعبكم ومن أجل الشعب الفلسطينى، ولا تنسَ أن سيدنا أيوب كان من سكان نهر الأردن. وأعتقد أنك ستكون قادرًا على حسم الأمور باتزان وحكمة رغم وجود بعض المتطرفين الفلسطينيين».
شبح الحرب كان يخيم على البلاد، ولم يكن قبول المبادرة غير التلكيكة أو القشة التى ادّعى البعير أنها قصمت ظهره. ولو عدت إلى المجلد السابع من كتاب هنرى لورنس «مسألة فلسطين»، ستعرف أن جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قال لمجلة «لايف» الأمريكية، فى ٩ يونيو ١٩٧٠، إنه يريد حروبًا من النوع الفيتنامى، ليس فقط على أرض فلسطين، لكن فى كل العالم العربى.
كان جورج حبش، وياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير، وعدد من قادة المنظمات والتنظيمات، يخططون، بلا مواربة، لإشعال الحرب فى الأردن وغيرها. وبزعم أن مبادرة روجرز تستهدف تصفية القضية، قاموا بتصعيد العمليات واختطفوا أربع طائرات إلى مطار فى الأردن، واستمر التصعيد وتزايدت الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة فى العاصمة عمان، حتى دخلتها دبابات ومدرعات الجيش الأردنى من جميع الاتجاهات، وامتدت الاشتباكات، فى اليوم التالى، إلى مدن إربد والرمثا «شمال» والزرقاء «شرق». وبعد يومين دخلت وحدات مدرعة سورية شمالى الأردن. وثائق أمريكية رسمية، تم رفع السرية عنها، أظهرت جزءًا مما كان خافيًا أو من غير المعلن رسميًا، من بينها أن هنرى كيسنجر، مستشار الرئيس الأمريكى لشئون الأمن القومى، قام فى ٢٠ سبتمبر، بإبلاغ إسحق رابين، السفير الإسرائيلى فى واشنطن، أن الملك حسين طلب، فى رسالة وصلته عبر السفير البريطانى فى عمان، أن يقوم سلاح الجو الإسرائيلى بقصف المدرعات السورية، التى كانت قد احتلت إربد وتستعد للتقدم جنوبًا، وبينما كانا يتحادثان وصلت برقية كان السفير الأمريكى فى عمان قد أرسلها، قبل ساعتين، جاء فيها أن الملك حسين هاتفه طالبًا من الرئيس نيكسون التدخل برًا وجوًا «للحفاظ على سيادة واستقلال وسلامة أراضى الأردن».
استجاب نيكسون للطلب، ودعا الإسرائيليين إلى القيام بعملية خاطفة، حادة وماحقة، وكان تقدير الإدارة الأمريكية للموقف هو أن الملك حسين فى ورطة مزدوجة: سيفقد حكمه بدون الدعم الإسرائيلى، وقد يواجه مصيرًا مشابهًا لو تدخلت إسرائيل، ولهذا فضل نيكسون أن تكون الضربة فى جنوب سوريا، غير أن الإسرائيليين رأوا أنه إذا كان الهدف هو مساعدة الأردن فلا داعى للعمل فى قطاع آخر، ثم رفعت القوات السورية الحرج، عن الطرفين، بانسحابها فور قيام الطائرات الإسرائيلية بتحليق استطلاعى فوق منطقة العمليات، كما انسحبت قوات عراقية كانت منتشرة فى الأردن، ليعود الصراع إلى طابعه المحلى!
تجربة مريرة شكلت نقطة تحول مهمة فى المنطقة لم يدرسها الفلسطينيون بعد بما فيه الكفاية، ولم يتعلموا شيئًا من ذلك الدرس شديد القسوة، وواصلوا توجيه طعنات متتالية إلى كل داعميهم وإلى قضيتهم، وصولًا إلى قيام الرئيس الفلسطينى وقادة أو أمناء الفصائل ببيع قرارهم وأنفسهم للرئيس التركى والعائلة الضالة، التى تحكم قطر بالوكالة، ما قد يجعل هذا الشهر، الذى يوشك أن ينقضى، يستحق أن يوصف بأنه «أيلول أسود» جديد، أكثر سوادًا من سابقه.