رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على خط النار.. كيف يتحول الطفل من لاجئ إلى إرهابي؟

تجنيد الأطفال
تجنيد الأطفال

«أقتل.. أصلي.. أنافق.. أضرم النار.. أهاجم أهلي»، تلك الكلمات صادرة من «طارق» طفل لم يتخطّ عمره 15 ربيعًا، قاده القدر أن يقع تحت وطأة «داعش» والذي أُجبر على أن يكون ضمن صفوف التنظيم الإرهابي في ليبيا، أثناء تجواله على ساحل البحر، لتنقلب حياته رأسًا على عقب، فمن طفل له الحق في اللعب مع أقرانه إلى مجند يحمل سلاحًا؟

«طارق» واحدٌ ضمن الأعداد التي أعلن عنها تقرير عُرض عبر قناة مداد نيوز السعودية، يرصد تجنيد تركيا لعشرات الأطفال السوريين من أجل إرسالهم للقتال في ليبيا إلى جانب ميليشيات حكومة السراج بالعاصمة الليبية طرابلس في انتهاك صارخ للقانون الدولي وحقوق الطفل.

وربما يصبح واحدًا من أولئك الأطفال الذين تحدث عنهم الرئيس عبدالفتاح السيسي في خطابه بالأمس: "ناس كانت عايشة مستقرة نهجّرّهم ويعيشوا لاجئين.. الطفل اللي عنده 10 سنين وعايش في المعسكرات وبقى 20 سنة هيبقى إيه دلوقتي ويشِتغل إيه".

ما سبق ليس ببعيد عن مناطق الصراعات في بلادنا العربية، خاصة المشتعل منها في تلك الأيام، في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وقع ضحيتها أطفال صغار، بدلًا من اللعب واكتشاف ما في الدنيا من طاقة ونشاط كان مصيرهم الأسر والتجنيد الإجباري في صفوف مخربي البلاد العربية، وسط حسرات الأهل وصراخهم على فلذات أكبادهم ولا حيلة لهم في التصرف أمام ذلك، وهو ما نقلناه لكم في الحكايات التالية.
• طارق: رحلة على ساحل البحر حوّلت حياتي لجحيم

طارق يروي أنه خلال رحلته على ساحل البحر فوجئ بغمامة توضع على عينيه ليغيب عن العالم ولا يدري ما مصيره، ليستيقظ على عالم آخر ملئ بالملابس السوداء والأوجه الملثمة، كلما حاول السؤال: "وين أنا" فالإجابة تكون الضرب رضوخًا لتنفيذ الأوامر، واستمر الحال لعام ونصف، حول التدريب على ضرب النار، إلى أن نجح في الهرب من هذا الجحيم.

لم تنتهِ الحكاية عند تلك النقطة، لكنها انتهت عند نجاحه في الهرب في أطراف الليل ليتلقى ضربة أخرى على رأسه من الخلف، لكن تلك الضربة كانت هي المنقذة وليست المهلكة، فأصحابها هم الهلال الأحمر الليبي، ساعدوه في الالتحاق بإحدى مراكز التأهيل.

موسى: ضرب "هجين" كان خلاصي

"موسى.. موسى" كانت الكلمات الأخيرة التي أطلقها أهل الطفل الصغير من الأكراد الأزيديين، الذي لم يتخط الـ11 عامًا، في الثالث من أغسطس 2014، أراد كَأقرانه اللعب الذي يمنحه النشاط والطاقة، رغم تحذيرات والده بعدم الابتعاد عن المنزل، فالأجواء في البلاد ليست آمنة، لأن العراق تحت وطأة "داعش"، آنذاك، خاصة إذا كان الأمر متعلقًا بالإزيديين، لكن موسى خرج ولم يعد.

أنفاس متلاحقة وعيون ثابتة وجسد متسمّر في مكانه بمجرد أن وطأت قدمي "موسى" الشارع المجاور لمنزله، فإذا بعناصر إرهابية تستوقفه ولم يستطع الفرار منهم كما هو معتاد مع أبيه الذي لم يستطع منعه من الهرب يومًا، لكن الأمر كان مختلفًا فـ فجأة أصبحت عينيه متّشحة بالسواد ويداه مكبلة بالحبال ثم غاب عن الوعي غير مدرك ما الذي ينتظره بعد هذا المشهد الذي لن يفارق ذاكرته طوال حياته.

"ترجّلوا سريعًا من السيارة وصلنا سنجار"، تلك الكلمات كانت الأولى التي يسمعها موسى مع 50 شخصًا آخر ما بين نساء وأطفال ورجال، وصدرت عن أحد أفراد التنظيم الذي اقتادهم كأسرى، نبرته كانت حادة أقرب إلى الصراخ، فأُجبروا على طاعته خوفًا من عواقب الرفض أو المماطلة، حتى وصلوا إلى غرف مظلمة لا يسمع منها سوى همهمات عناصر التنظيم، إلى أن فوجئ بأحدهم يقتاده للخارج مهنئًا: "مبروك هتصَير عسكري في صفوفنا".

رحلته التالية لم يكن يعلم مصيرها، لكن ما كان يعلمه جيدًا ويحاول فعله هو الرضوخ للأوامر، ويروي باقي قصته: انتهينا من معكسرهم في مدينة سنجار لنتجه بعدها إلى أولى خطوات التجنيد في تل عفار –وتقع المدينة بالقرب من الحدود العراقية السورية وتبعد عن عن الحدود السورية بحوالي 60 كم وهي معقل "داعش" في العراق- ثم إلى "بعدوش".

دورته العسكرية بدأت من تل عفار لمدة 3 شهور؛ كان أولها إشهار الإسلام ثم التنظيف والأكل للاستعداد للتدريب العسكري، ثم العمل المشترك والتأكيد على تكفير الآخرين، ثم التدريب على فك وتركيب السلاح والنشان وقطع الرؤوس، ثم بات عسكريًا يستقبل العائلات الإيزيدية بالأفرول المموه والرابطة السوداء المكتوب عليها بخط أبيض الشعار "جند الخلافة"، ليجد إخوته ووالدته ضمن الأسرى الجدد، فكانت الصدمة.

"الموصل" كانت وجهته التالية التي تدرب فيها على أسلحة "بي كيه كيه" -أسلحة الأكراد التي استولت عليها داعش- وفك تركيب السلاح، لم يقتصر التدريب على الأجواء العسكرية فقط، إنما أيضًا على ضرب الإيزدييين من أبناء شعبه، وكان المتخلف عن تلك التدريبات أو الممتنع عنها يلقى نصيبه من العقاب؛ أشده الضرب بالفلكة والقتل رميًا بالرصاص، وأبسطها الضرب ورؤية قطع الرؤوس، ويقول إن المسئول عن التعامل معهم كان أردني الجنسية وتدريب الأطفال مهمته.

يروي موسى أن مكان خدمته العسكرية انحصر بين البوكمال السورية والموصل العراقية، وخلالها تحول إلى إرهابي بالدرجة الأولى؛ من عمليات قتل إلى إسقاط طائرة حربية، انتقل بعدها إلى بلدة "هجين" –احتلها التنظيم في شرق سوريا بالقرب من الحدود مع العراق، وتعتبر آخر معاقل "داعش"- وهناك أصبح مدربًا للوافدين الجدد من الأطفال المجندين ليعيدوا كرته، لكن تدخلت العناية الإلهية وضُرب معسكر هجين، وتم إيداع "موسى" في أحد مراكز التأهيل.

بحسب إحصائيات أدرجها الكاتب الصحفي عصام عبد الجواد، رئيس تحرير «روزاليوسف» السابق، في كتابه "أطفال داعش"، أكد أن عددًا من التقارير الإعلامية ذكرت أن عدد الانتحاريين من الأطفال وصغار السن التابعين لداعش زاد 3 مرات 2016، مقارنة بعام 2015، مؤكدة أنّ داعش كان يعتمد في تدريبه على حشو عقول الأطفال بمقاتلة من يرونهم "كفّارًا"، بحسب مفهوم التنظيم الإرهابي.

وبحسب مدير مكتب المخطوفين الإيزيديين في محافظة دهوك العراقية، في الأشهر الستة الأولى من عام 2015، شهدت تنفيذ 40 طفلًا، يُطلق عليهم "جند الخلافة"،عمليات انتحارية في العراق، وحوالي 800 طفل إيزيدي، تتراوح أعمارهم بين 5 و18 عامًا، كان يتم تدريبهم في 3 معسكرات في مناطق البعاج والموصل والرقة السورية، على كيفية قطع رؤوس البشر والأعمال الانتحارية.

عامر: بسبب خطأ في تحديد وجهتي هربت من "الحوثيين"
من العراق إلى اليمن توصلت «الدستور» إلى قصتين لأطفال أُجبروا على الانضمام إلى ميلشيات الحوثيين –وهي حركة سياسية دينية مسلحة تتخذ من"صعدة" شمال اليمن مركزً ارئيسيًا لها عرفت إعلاميًا باسم الحوثيين نسبة إلى مؤسسها بدر الدين الحوثي، تأسست 1992 بسبب التهميش والتمييز ضد الهاشميين من الحكومة اليمنية- فضّل الأول اختيار اسمًا مستعارًا هو عامر، الذي يبلغ من العمر 14 عامًا، كان يعمل في بيع القات– نبتة مخدرة تنتشر في اليمن وشرق أفريقيا - بالعاصمة صنعاء، وتعرف عليه أحد المشرفين الحوثيين وطلب منه أن يلتحق معهم في الساحل الغربي لحماية الممتلكات من اللصوص ويتم إعطائهم سلاح كلاشنكوف.

يروي لـ"الدستور" أنه تم تجنيده في منطقة جبلية، لا يعرفون هذه المنطقة بسبب أن الحوثيين أظلموا أعينهم سوادًا قبل نقلهم إلى هذا المكان، وبعد التجنيد تم إعطائه 15 ألف ريال يمني وتم نقله إلى أطراف منطقة حيس وهي على خط النار، وقالوا له: "أنت في مؤخرة الجبهة"، وأنه سيقاتل أمريكا وإسرائيل في الساحل الغربي.

ولعبت الصدفة دورها حين ضل "عمار" طريق وصوله إلى الجبهة المتفق عليها، فتم أسر هذا الطفل بعد وصوله إلى الجبهة، لأنه أخطأ ووصل إلى مواقع سودانية تابعة للتحالف وتم نقله إلى المخاء (مدينة يمنية).

حسام: باعني خالي مقابل المال

من صنعاء إلى زمار، كانت القصة الثانية التي تعود إلى 2015، مع حسام، (11 عامًا)، عاش سالمًا مع خاله، واكتشف فيما بعد أنه يعمل مع مليشيات الحوثيين، المسيطرة على عدد من المدن في أعقاب الانقلاب على الشرعية في اليمن ما بعد عام 2014، لكن لم يصل إلى خيال "حسام" أن يبيعه خاله لتلك الجماعات الإرهابية مقابل حفنة من الأموال فالفقر كان سبيل إغوائه بتلك الجريمة، ورغم محاولاته إلا أنها باءت بالفشل ووقع تحت وطأتهم.

"الصوم والصلاة في مواعيدها والبشارة بالحور العين والجنة"، هكذا شرح لنا حسام طرق تدريب وغسل أدمغة الصغار، وهذا دون إغفال التدريبات الرياضية واستخدام السلاح، واستمر ذلك لشهر، ثم جاء وقت التنفيذ العملي، فذهبوا بهم إلى الجبال وأعطوهم سلاح للمشاركة في الحرب، الأمر كان سهلًا أمام المغريات التي قدموها لهم خاصة المال، معلقًا: "لم يكن عليّ سوى أن أقتل وأضرب النار من السلاح".

وبعد أسبوعين كانت المفارقة التي أيقظت "حسام" من بحر المغريات الذي وقع فيه، حيث قُصف المعسكر الذي خضع للتدريب فيه من قبل التحالف العربي، ومات خاله أمام ناظريه دون أن يكون له حيلة في إنقاذه، واليوم يروي قصته بعدما نجح في الهرب من الحوثيين بعد سنوات من العذاب معهم، وما أن وطأت قدماه منزله حتى اتجه إلى المركز الأمني لتسليم نفسه، فكانوا سببًا في مساعدته على إعادة التأهيل النفسي، واستكمال تعليمه الذي توقف عند الصف السادس الإبتدائي.

ووفقًا لإحصائيات منظمات حقوقية محلية في اليمن، يتم تجنيد الأطفال في سن يتراوح ما بين 13 إلى 17 عامًا، ونسبة التجنيد الأكبر ترتكبها ميليشا الحوثيين بنسبة 75%، ويتجاوز أعداد المجندين الأطفال في صفوف الحوثيين أكثر من 15 ألف طفل خلال سنوات الحرب الخمس، ووفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، شهدت اليمن مقتل 10 آلاف طفل مجند في القتال خلال 5 سنوات، منذ بدأ الصراع في أواخر عام 2014.

علي: كنّا نرى مناظر الدماء والأذرع المبتورة في تدريباتنا

ناجي علي، ولد 2003 بمدينة ديرالزور قرية الحوايج، وحيد أمه وأبيه، حينما توفي والده عاش في كنف أعمامه وأخواله وترك أمه التي تزوجت، ومع بلوغه سن العاشرة بدأت قصته مع الدواعش، والتي كان أقرانه السبب فيها، حينما ملئوا رأسه بأفكار إرهابية مثل: "أنت يتيم وأمك تركتك وما إلك أحد.. والدولة الإسلامية هي أمك وأبوك روح عليهم يعلموك ويعطوك مال.. وستكون أحد أشبال الخلافة".

مع زيادة الحديث بمثل هذه الطريقة، مال الطفل إلى تصديق حكيهم، مع غياب مصدر النصح له قادته قدميه إلى ما يسمى مكاتب الدعوة وسجل اسمه وتم قبوله، لأن أمثاله من الأطفال من السهل الدخول إلى رأسه وبث الأفكار الجهادية فيها، لذا لم يأخذ فترة طويلة في الدورة الشرعية التي كان لا بد من الخضوع لها قبل الدورة العسكرية، لكن لحسن حظه أن انتبه أهله لما كان مقدم عليه وحلّت المعجزة حينما نجح أهله في إخراجه بحجة أنه لا يزال قاصرًا بعد جهود كبيرة ووساطات.

يروي علي أنه من الأمور التي كانوا يملؤون رؤوسهم بها أن الحكم لله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، فالحكام كفرة والجهاد فرض على الجميع، كل ذلك يجري مع تحميس النفوس عن طريق الأناشيد الدينية الهادفة إلى زرع فكر الجهاد في عقولهم، فالدورة كانت مغلقة وفي مكان مجهول لا أحد يعرفه، وتضم عدد كبير من الأطفال، يرونهم مناظر الدماء والأذرع المبتورة، وبنظرات يملؤها الخوف، تابع أنهم كانوا يقولون لهم: أسمائكم أصبحت عند النظام سواء كملت معانا أو تركت فأنت صرت مطلوب ولن تستطيع أن تعود كما كنت".

أحد أعضاء الهلال الأحمر السوري، أكد لـ"الدستور" أن الطفل ظل متأثرًا بأفكارهم فترة طويلة من الزمن، فيتحدّث عن أسلوب الإقناع والعقوبات، ومن يتأثر من الأطفال يسجل اسمه كانتحاري أو تصنيع العبوات الناسفة وزرعها، ولولا أن عمره كان أقل من الخامسة عشرة لكان الآن في عداد الأموات.
أخصائية نفسية: نصيحة في معاملة الأطفال
وعن التكوين النفسي وكيفية التعامل مع نفسية الطفل لتخطي ما تعرض له من مشاهد قاسية، تحدثنا الخنساء نور الدين، ماجستير علوم إنسانية جامعة عين شمس وأخصائية نفسية، عن أنواع الأطفال في تقبلها لمشاهد العنف.

فتقسمهم إلى أطفال لا تتحمل المشاهد التي رأتها، فيتحول الأمر معه إلى صدمة تجعله صامتًا، فلا يمكن تبين ما رآه أو ما عايشه قبل أن يبدأ في استيعاب ما حدث له، وآخر غير قادر على النوم ليلًا لإصابته بنوع من الخوف، فكلما استغرق نومًا أعيدت المشاهد التي عايشها "فيقوم مفزوع ومينمش طول الليل".
وتضع "نورالدين" أسسًا للتعامل معه، فاستجابة الطفل تتأثر بجرعة الحنان التي يتلقاها، ومدى التفاعل الوجداني الذي بينك وبين الطفل، ومدى الأمان الذي يشعر به في منزله، من خلال تعاملات الأب والأم مع بعضهما البعض ومدى التفاهم بينهما، مما يقلل من الاستجابة الصعبة التي تجعله مفزوعًا.

وفي كيفية التعامل معه، يحاول المتخصص النفسي نقل الخبرة له على قدر عقليته الصغيرة، ليصبح قادرًا على استيعاب الأحداث حوله، والتأكيد عليه أن مثل تلك الأمور طارئة، والأشخاص الذين يقومون بتلك الأمور الإرهابية لهم تفكير وطريقة مخالفة لنا، فمن الضروري معاملة الطفل كشخص قادر على الفهم لا الاستخفاف به.
لأنه يكون على قدر كبير من الوعي للكلمات التي يتلقاها منك، وهذا يوهبه قدر من الاطمئنان تجعله يسرد ملابسات الحدث الذي تعرض له، وهذا يأخذ وقتًا طويلا لأن الطفل في أول الصدمة عليك السيطرة على انفعالاته قدر الإمكان، فالموقف يعتبر خبرة جديدة عليه لا يفهمها فتصبح جرعة زائدة على انفعالاته ومشاعره وطريقة تفكيره.