رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مَنْ ابتلع أنف «أبوالهول»؟

مسعودة علي
مسعودة علي

يجلس «أوناس» على الحجر الذى يمتد إلى حوالى متر نحو الأمام حيث الخواء، تداعب الريح الفجوتين اللتين تتوسطان السطح الأمامى للحجر الأبيض الواقع فى أعلى الصرح فتصدران صفيرًا أشبه بنواحٍ حزين.. اعتاد منذ صغره الجلوس كل ليلة فى هذا المكان، حيث لا أحد غيره يخاطر بالتواجد على علوّ عشرين مترًا فى مكان محظور، أين تحيط به المقابر من الجهات الأربع ويختنق مجال رؤيته بفعل الكثبان الضخمة الباركة فى الأرجاء.
يجلس كل ليلة يراقب السماء وأجرامها، وينتظر انقشاع السحب لتطلّ خلفها النجوم الثلاث التى ترصّع حزام المحارب فى كوكبة الجوزاء المرتسمة فى قبة السماء، فيتأمّل مشهده المفضّل حين تتعامد قمم الأهرامات بالنجوم، وكأن بين كل هرم والنجمة التى تعلوه خيطًا من نور، وطريقًا تعرج من خلالها أرواح المدفونين إلى السماء، وتلج فى جوف تلك الكتل المتوهجة.
كان الفتى يقضى أغلب الليل متأملًا، ثمّ ما إن يشعر بفيض الدفء المنبعث من الصخرة الكلسية شديدة البرودة حتى يغطّ فى نوم عميق، لا يستيقظ منه حتى فجر اليوم التالى.. فيعود أدراجه قبل أن تنساب أنامل الشمس اللامعة وتفضح خلوته.
بدأ الأمر قبل بضعة أعوام، كان طفلًا بالكاد يبلغ ست سنوات، ليلتها كان على وشك النوم قبل أن يخطفَ بصرَه وهج شديد قادم من هذا المكان، وبالرغم من أن الوميض لم يدم سوى بضع ثوان غير أن قوةً ما كانت تقتاده إلى هنا، وقف قبالة الصرح تمامًا، ثم طاف حوله بمقدار نصف دورة أوصلته إلى الجهة الأخرى، وبينما هو واقف غير مدرك الخطر الذى يُحدق به فى مكان كهذا وفى هكذا وقت، هبت رياحٌ عاتية وذرّت حوله حبات الغبار لتكشف عن طريق مطمورة تحت الرمل، وعند تأملها وجدها تبدأ من هذا الجانب من الصرح وتنتهى عند الهرم الأكبر، لم يلبث سوى القليل عندما بدت له نتوءات فى جانب المجسم تشعّ ببريق غريب وكأنها تدعوه ليتسلقها نحو قدَرٍ ما.. وانتهى به المطاف إلى مكانٍ أصبح فيما بعد وجهته كلّ ليلة.. يجلس على أنف «أبوالهول» الناتئ الذى يبلغ عرضه مترًا وطوله كذلك، ثم يعود مع انسياب خيوط الفجر الأولى إلى القصر ويندسّ داخل فراشه، فيأتى أبوه العجوز الأعمى لتفقّده ثم ينصرف إلى عمله فى القصر.
فى إحدى الليالى، اضطرّ «أوناس» إلى التسلل بين القبور أبكر من المعتاد، كان يحثّ خطاه بين الموتى ويحسّ من فرط حزنه أنه أقرب إليهم من الأحياء.. اصطكّ شراك نعله بشاهدِ أحد القبور فانقطع، وانغرز الجزء المدبب منه فى بطن رجله، بدأت الدماء تنهمر على الصخور الجيرية المترامية فى الطريق، لكنّ الفتى واصل طريقه وهو يعرج حتى امتثل أمام صرح «أبوالهول» المنتصب فى الوسط تمامًا.
أسدٌ جاثٍ برأس إنسان، يتربع على مساحةٍ واسعة.. واسعة جدّا بالنسبة لفتى فضولىّ يختلف عن بقية أقرانه وعن عامة الناس الذين انصاعوا لأوامر جنود القصر وهم يمنعونهم من الاقتراب من هذا المكان وقبوره، خاصة من «أبوالهول».. انكبّ على وجهه محاولًا التقاط بعض الأنفاس بعدما كانت أنامل بكائه تحكم قبضتها على عنقه وتخنقه، ثم جلس على الرمل خائرةً قواه.. تذكّر تفاصيل يومه العصيب وراح ينتحب واضعًا وجهه بين ركبتيه وهو يضغط عليهما غير آبه بالدّم الذى يتقاطر من قدمه بفعل الشدّ.
عادت به ذاكرته ساعات قليلة إلى الوراء، عندما استيقظ والشمس تتربع وسط السماء مرسلة أشعتَها الحارقة، اتجه نحو صديقته «آلارا»، التى يقضى أغلب وقته معها بحكم عيشهما فى نفس الجناح، لم يكن يُسمَح للشابين بالتجوال فى القصر باستثناء مكان عيشهما الذى يقع فى آخر طابق من برجٍ منعزل، فيما كانت الأبراج الستة الأخرى من القصر مفتّحة بعضُها على بعض، ولم يجتمع برجهما ببقية القصر سوى فى الباحة الخلفية التى لم يكن أحدٌ يرتادها سواهما، يقضيان وقتهما فى اللعب حتى يأتى والدُها لاصطحابها إلى الأعلى، ويبقى هو بانتظار قدوم والده الذى يتأخر لأنه يستحمّ كل ليلة قبل عودته.
جلسا يلعبان برقعة «السنت»، وهى لوحة تتألف من ثلاثين مربعًا موزعة بالتساوى على ثلاثة صفوف، يحتوى كلّ مربع على كتابات هيروغليفية للمرور، يحرص الملوك وعلية القوم على تعليمها لأبنائهم من أجل تحفيز ذكائهم.. وجداها فى كومة خردة فى قبو الحكيم «بيشوا» والد «آلارا»، وبقيا يلعبانها حتى احترفاها، كان «أوناس» يتظاهر لصديقته بالخسارة أمامها تشجيعًا منه لها، لكنه قد انهزم اليوم أمامها فعلًا.. لأول مرة يدرك أنّ اسم «آلارا»، الذى يعنى «شديدة الذكاء»، صفة مطابقةٌ تمامًا للفتاة الواقفة أمامه، اكتشف أيضًا أنها لم تعد تلك الطفلة كثيرة التذمّر، فقد أصبحت فتاة فى غاية الجمال بعينين واسعتين تزينهما أجنحةٌ من الكحل القاتم، وتنسدل جدائل شعرها بنفس اللون على قلنسوة ذهبية يتوسّطها حجرٌ أزرق لامع، وتحت القلنسوة ترتدى ثوبًا أبيض محاكًا من خيوط الحرير.
راح «أوناس» يصرخ من فرط سعادته بإنجاز «آلارا»، وحملها بين ذراعيه والسعادة الغامرة تشعّ من عينيه.. كان صوت الفتى قد بدأ يخشوشن ما جعل صدى صرخاته يتردّد فى الباحة كزئير سبعين محاربًا.
- إخرس يا ابن القذر!
أفلت «أوناس» الفتاة واتجه نحو مصدر الصّوت، رجل يُتبيّن من فخامة ملابسه أنه أحد مسئولى القصر، كان كهلًا ذا بنية قوية وملامح غاضبة من الفتى.
- أبى ليس قذرًا، هو يعمل مثلك فى القصر.. أجاب «أوناس» بثقة.
أطلق الرجل ضحكة لئيمة فى الأرجاء، وسرعان ما تقدّم من الفتى وانتشله بعنف ثم دفع به أمامه قائلًا: «هيّا سأريك قذارة أبيك».
شعر الفتى بالإهانة على مرأى «آلارا» التى كانت تراقب ما يجرى بخوف وهى صامتة، ثم راحت تتبعهما حتى وصلا إلى أحد الأبراج، دفع الرجل الفتى بعنف إلى وسط ساحة يجلس فيها ثلاثة رجال تغطّى أجسادَهم كميات كبيرة من العسل، وتحوم أسراب الذباب حولهم، تبيّن «أوناس» ملامح أحدهم.
لم يُبدِ الفتى أى ردّة فعل وهو يكتشف حقيقة والده، الذى كان يُستعمل فى القصر كطارد للذباب، يخرج من الصباح فيغمس جسده بالعسل كى يلتصق به الذباب ويبتعد عن القصر.. ابتسم نحو الرجل الذى كان ينظر إليه بازدراء ثم قال:
- هذا لا يغير شيئًا.
استشاط الرجل غيظًا، فيما انصرف الفتى ولحقت به صديقته، جلسا صامتين حتى المساء، عاد والده بعدما استحمّ؛ يرافقه الحكيم «بيشوا» الذى أشار لابنته بالذهاب، بقى الفتى وأبوه الذى بادر بالحديث قائلًا:
- أوناس، أظنّ أن الوقت قد حان لأخبرك بحقيقةٍ لربما ستحرّرك من الشعور بالخزى.
علم «أوناس» أنّه ابن عائلة أخرى تركته عند الحكيم «بيشوا»، والذى أعطاه بدوره لصديقه طارد الذباب.. شعر بأنّ حياته كانت كذبة كبيرة وهو الذى كان ظنّ أنه ذكى بما يكفى عندما اكتشف أنّ الحكيم «بيشوا» ليس حكيمًا وإنما منجّم يستخدمه من فى القصر، ولكنه لم يظنّ أنّ سرّه أكبر من سر «بيشوا» بكثير، وها هو الآن بعدما انهارت كل حياته أمام عينيه، يتجه نحو المكان الوحيد الذى لم تطله أيدى الدمار.
وبينما كان يحثّ خطاه إلى حيث يجثو «أبوالهول» كان «بيشوا» يحاول اللحاق به، تخلّف العجوز كثيرًا عن سير الفتى لكن لا يزال بإمكانه اقتفاء أثره.. شيئًا فشيئًا بدأت آثار الرجل اليمنى تبدو أقل عمقًا تغطّيها قطراتٌ من الدماء، كما وجد أحد نعلىّ الفتى مقطوعًا وعليه بعض الدم.
بعد مسير ساعتين، وقف العجوز حيث كان «أوناس» جالسًا، انتهت الآثار عند الجهة الخلفية للصرح، ولكنّ «بيشوا» لم يجد أى أثر للفتى، التفت حوله دون جدوى، ولحسن حظه كانت الليلة مضاءة ببدر مكتمل تسمح له بالرجوع أدراجه بعدما خبت نار سراجه. وبينما كان يستعدّ للانصراف إذا به يرى كوكبة الشرق تتعامد مع الأهرامات التى كان غلافها الجيرىّ ناصع البياض يتوهّج بشدة، انتقل النور إلى الطريق الرابط بين الهرم الأكبر و«أبوالهول»، هذا الأخير الذى تلألأ بشدة هو الآخر بمختلف الألوان التى كانت تغطيه، رفع بصره إلى أعلى وإذا بخيال الفتى يتراءى له على ارتفاع عشرين مترًا، يغفو مقرفصًا فوق الأنف الناتئ إلى الخارج، وما إن وصل التوهج إلى رأس الصرح حتى رآه ينطبق فيُدخل فى جوفه الأنف والفتى الذى يجلس عليه.
بقى العجوز «بيشوا» فاغرًا فاه محاولًا فهم ما يجرى، ثم لبث موضع قدمه يترقب أى حدث آخر إلى غاية دقائق قبيل الفجر أين لفظ الرأس الأنف والفتى من جديد وكأنهما لم يدخلا فى جوفه قطّ، ثم شاهد شيئًا ما أشبه بالوميض يربّت على الفتى حتى استيقظ.. اختبأ العجوز بعيدًا عن ناظرىّ «أوناس» وواصل السير خلفه.
بعد عدّة أيام من المراقبة، عرف المنجّم «بيشوا» أن خلف هذا الفتى سرّا كبيرًا، وأنّ الإشارات هى من وضعته تلك الليلة فى طريقه وهو رضيع.
- سأزوّجك آخر بناتى «آلارا».
كان هذا عرض العجوز لـ«أوناس» وهو يعرف مدى إغراء هذا العرض، ليس فقط لأن «آلارا» فائقة الجمال والذكاء، بل لأنها حب حياة «أوناس».. مرّت بضع سنوات على تلك الحادثة إلى حين بلوغ الشابّين سنّ الزواج.
وذات ليلة بينما هو عائد فجرًا إلى البرج، قاطعته فتاته باكية.
- «أوناس» سيزوّجنى أبى من «تتى»، سيبعدوننى عنك، افعل شيئًا!
كان «تتى» هو الاسم الحقيقى للفرعون الحاكم الذى كانا يلقّبانه بـ«ست»، بمعنى الشرّ، فلطالما سمعا أنه قد وصل إلى الحكم بعدما قتل آخر حكام الأسرة الخامسة وولى عهدهم الرضيع، كما أنّه اشتهر بالظلم والشر، لكن لم يكن فى علمهما أن شرّه سيطالهما.
وفى صبيحة أحد الأيام استفاق على صوت حبيبته وهى تصرخ باسمه بينما يقتادها الجنود إلى جناح الفرعون «ست»، كان قلبه يعتصر من الألم، فـ«آلارا» هى الشىء الوحيد المتبقى له.. انتظر حتى أرخى الليل سدولَ الظلام على القصر، ثمّ تسلّل إلى جناح القصر الذى لم يطأه يومًا، بعدما لطخ جسده بالكثير من العسل كتمويه، وجد جمعًا من النسوة يقفن على عتبة باب الحمام الذى خرجت منه «آلارا» أشدّ جمالًا من ذى قبل، أشار نحوها غامزًا ثم اتجه إليها:
- لقد كُلفت بمرافقة مولاتى.
استطاع الحبيبان أن يفلتا من أعين الحرّاس بعدما تلثّمت الفتاة، وانطلقا خارج القصر الذى عجّ بحكاية المتمرّد الذى وقف فى وجه الفرعون، سرعان ما اكتُشِف أمرهما. استشاط «تتى» غضبًا وخرج خلفهمًا عازمًا على جعلهما عبرة لمن يتجرأ عليه، يقود مئة وخمسين من الحرس تبعهم مئتا فارس وعدد كبير من المشاة والرماة.
عندما وصل الجنود إلى حيث المقابر اضطرّوا إلى الترجّل من جيادهم بسبب طبيعة الطريق، ولأن «أوناس» يعرف المكان جيدًا فقد استطاع مغافلتهم حاملًا فتاته على ظهره.
فى غضون ظرف وجيز، كان الخبر قد ذاع فى جميع الأنحاء والتحق عدد غفير من الناس لمشاهدة ما يحدث، ما جعل الفرعون أكثر إصرارًا للفتك بالفتى والتنكيل به.. صعد «أوناس» بخفّة فوق جسد «أبوالهول» وأصبح محيط المقبرة محاطًا بالفرعون وقرابة ألف من جنوده، فيما كانت الجماهير الغفيرة تشاهد من بعيد ملوّحين بعصىّ النار والسرج التى فى أيديهم.
أحسّ الفتى بأنها النهاية، فأخذ رأس حبيبته ودسّه فى صدره ثمّ جعله خلف ظهره، بينما كان يقابل الفرعون فى تحدٍ، أمر هذا الأخير رُماتَه باستهداف «أوناس» الواقف على أنف المجسم تمامًا، وقبل أن تصل السهام إليه كانت الأجرام والأهرام والطريق والمجسّم قد استنارت وأُطبِق الأنف بالداخل فلم يعد يُر أثر للشابّين..
انتشر المَرج بين الجموع وعلت صرخات الجماهير المتعجبة التى هتفت طويلًا بمجد «أوناس»، وعلم الجميع أنه ابن «جد كا رع» الذى قتله «تتى» ليستولى على الحكم.
تقدّم هذا الأخير رفقة جنوده نحو «أبوالهول»، وبينما هو تحت الرأس تمامًا يحاول تفحّص الأمر، إذ بالأنف يُلفَظ ويقع عليه فيقتله.
تقدّم المنجّم «بيشوا» حاملًا الصخرة- الأنف بمشقّة بالغة، وسحبه بعيدًا عن المكان بهستيريا، وما إن ابتعد بالصخرة حتى بدأت الرمال تغمر المكان وتغرق الجنود، واستمرّ الأمر طوال أيام متواصلة حتى غطت المقابر والمجسّم وطمرت السرّ بين حبات الرمل.
أما «بيشوا» فقد شوهد يربط نفسه بالصخرة ثم يلقى بنفسه فى النيل قربانًا له.. وبقى الأنف كلّ عام يشتمّ رائحة «ست» فيبتلع من أثره شيئًا ويدفنه فى مياه النيل.
القصة الحائزة على المركز الثانى، «الجزائر»، فى مسابقة صلاح هلال للقصة القصيرة