رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ حسنين مخلوف.. مُصلح يُعهد إليه بجلائل الأعمال


الشيخ حسنين محمد مخلوف «١٨٩٠م- ١٩٩٠م» واحد من كبار علماء الأزهر، سافر إلى القاهرة من بلدته «بنى عدى» بصعيد مصر مركز منفلوط بمحافظة أسيوط، وتعهده أبوه بالتربية والتعليم، فما إن بلغ السادسة حتى دفع به إلى من يحفظه القرآن الكريم، وأتمه وهو فى العاشرة على يد الشيخ محمد على خلف الحسينى، شيخ المقارئ المصرية، وعندما هيأه أبوه للالتحاق بالأزهر كان يحدوه الأمل فى أن ينال ما ناله أبناء بلدته، الذين تعلموا بالأزهر، وتخرجوا فيه حاملين لواء إرشاد الناس وتوجيههم، مثل الشيخ: على بن أحمد العدوى، الذى تفقه على مذهب المالكية، وجلس للتدريس بالأزهر، وكان قوى الشكيمة، ينادى بالحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويُذكر عنه أنه أول من ألّف الحواشى على شروح كتب الفقه المالكى، نبغ أيضًا من أبناء هذه البلدة الكريمة: أبوالبركات الدردير، العالم الزاهد والفقيه النابه، وصاحب المؤلفات العظيمة فى الفقه والتوحيد والتصوف، والعالم اللغوى محمد قطة العدوى، الذى قام بجهد مشكور فى إخراج أمهات كتب التراث التى كانت تطبعها مطبعة بولاق.
حفظ الشيخ حسنين محمد مخلوف متون التجويد والقراءات والنحو، وفى الأزهر تلقى العلم على يد كبار شيوخ الأزهر، من أمثال الشيخ عبدالله دراز، ويوسف الدجوى، ومحمد بخيت المطيعى، وعلى إدريس، والبيجرمى، فضلًا عن والده الشيخ محمد حسنين مخلوف، لما فتحت مدرسة القضاء الشرعى أبوابها لطلاب الأزهر، تقدم للالتحاق بها، وكانت تصطفى النابغين من المتقدمين بعد امتحان عسير لا يجتازه إلا الأكفاء المتقنون.
فى الأزهر سمت به همته إلى طلب العلم ومصاحبة العلماء وثابر على القراءة والتحصيل حتى استوى عالمًا يشار إليه، ومصلحًا يُعهد إليه بجلائل الأعمال، فتولى إنشاء المكتبة الأزهرية، وجمع لها الكتب المبعثرة فى المساجد، وصنفها وفهرسها، وكان أول مفتش للعلوم بالأزهر والمعاهد الدينية، وأصغر الأعضاء فى المجلس الأعلى للأزهر الذى يشرف على أعمال الأزهر ويتولى توجيهه ووضع سياساته، واختير وكيلًا للجامع الأزهر.
تخرج بعد أربع سنوات حائزًا على عالمية مدرسة القضاء سنة ١٩١٤م، وبعد أن خاض امتحانًا قاسيًا أمام لجنة كان من بينها الشيخ سليم البشرى، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ بكرى الصدفى، مفتى الديار المصرية، كان الاختبار الشفوى النهائى يحضره شيخ الأزهر مع أربعة من كبار العلماء، وقد يمتد إلى ست ساعات للطالب الواحد، وقد ترفع الجلسة بعد عناء لتستكمل عملها فى الغد، ومن ثم كان لا يجتاز هذا الاختبار إلا الأذكياء من الطلبة القادرين على إقناع هذه اللجنة العظيمة بسعة تحصيلهم وغزارة علمهم فى فنون مختلفة من العلم.
كان السكرتير الشخصى للرئيس أنور السادات فوزى عبدالحافظ متزوجًا من السيدة كوثر مخلوف، أخت الشيخ حسنين مخلوف، وفى ذات الوقت يعد والد الشيخ مخلوف خال السيد فوزى عبدالحافظ، كما أن السيدة كوثر مخلوف تعتبر خالة الدكتور كمال أبوالمجد.
بعد تخرجه أخذ يلقى دروسه فى الأزهر متبرعًا إلى أن عُين قاضيًا بالمحاكم الشرعية سنة ١٩١٦م، ثم انتُدب للتدريس فى قسم التخصص بمدرسة القضاء الشرعى لمدة ثلاث سنوات، ثم عُين نائبًا للمحكمة العليا الشرعية، وعُين عضوًا بجماعة كبار العلماء بالأزهر سنة ١٩٤٨م.
عمل مفتيًا للديار المصرية فى الفترة «٥ يناير سنة ١٩٤٦م- ٧ مايو سنة ١٩٥٠م»، ومنذ انتهت خدمته القانونية لم يركن إلى الدعة والراحة، بل أخذ يلقى دروسه بالمشهد الحسينى يوميًا، ويصدر الفتاوى والبحوث المهمة، إلى أن أعيد مفتيًا للديار مرة ثانية فى الفترة «مارس سنة ١٩٥٢م- ديسمبر سنة ١٩٥٤م»، بعد خروجه من منصب الإفتاء عمل رئيسًا للجنة الفتوى بالأزهر الشريف مدة طويلة.
شغلت الشيخ أعماله فى القضاء والدرس عن التأليف والتصنيف، واستهلكت فتاواه حياته، وهى ثروة فقهية ضخمة أحلته مكانة فقهية رفيعة، وقد جُمعت فتاواه التى أصدرها أثناء توليه منصب الإفتاء، وما نشر فى الصحف السيارة فى مجلدين كبيرين، غير أن للشيخ كتبًا، وهى نافعة جدًا، لأنه وضعها حلًا لقضية أو بيانًا لمشكلة اجتماعية، فهى كتب عملية تأخذ بيد الناس وتبين لهم مبادئ دينهم فى سماحة ويسر.
ومن بين مؤلفاته العديدة: أسماء الله الحسنى والآيات القرآنية الواردة فيها، أضواء من القرآن الكريم فى فضل الطاعات وثمراتها وخطر المعاصى وعقوباتها، آداب تلاوة القرآن وسماعه، المواريث فى الشريعة الإسلامية، شرح البيقونية فى مصطلح الحديث.
وللشيخ جهود فى تحقيق بعض الكتب، مثل: الحديقة الأنيقة فى شرح العروة الوثقى فى علم الشريعة والطريقة والحقيقة لمحمد بن عمر الحريرى، شرح الشفا فى شمائل صاحب الاصطفا للملا على القارى، هداية الراغب بشرح عمدة الطالب لعثمان بن أحمد النجدى.
كان الشيخ محل تقدير واحترام لسعة علمه وشدته فى الحق، وعلى الرغم مما ألمّ به فى مصر من بعض التضييق، فإن الدولة قبل الثورة وبعدها نظرت إليه بعين التقدير لجلائل أعماله فى الدعوة والقضاء والإفتاء، فمُنح كسوة التشريفة العلمية مرتين: الأولى وهو رئيس لمحكمة طنطا، والأخرى وهو فى منصب الإفتاء، كما نال جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية سنة ١٩٨٢م، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وامتد تكريمه إلى خارج البلاد، فنال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة ١٩٨٣م.
طالت الحياة بالشيخ حتى تجاوز المائة عام، قضاها فى خدمة الدين الإسلامى داخل مصر وخارجها، حيث امتدت رحلاته إلى كثير من البلاد العربية ليؤدى رسالة العلم، ويلقى دروسه، أو يفتى فى مسائل دقيقة تُعرض عليه، أو يناقش بعض الرسائل العلمية فى الجامعات، وظل على هذا النحو حتى توفى فى ١٥ أبريل ١٩٩٠م.