رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فن إدارة المسافات


قصة رمزية ذكرها الفيلسوف الألمانى شوبنهاور تقول: «إن مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها فى إحدى ليالى الشتاء المتجمدة طلبًا للدفء وهربًا من الجو الجليدى شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر كلما شعرت بوخز الأشواك التى تحيط بأجسادها، مما يسبب لها المزيد من الألم.. وأنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة وتجمدت أطرافها وبحاجتها للدفء فى أحضان أصدقائها!.. بيقت على هذه الحال بين ألم الاقتراب وهجير الانفصال؛ إلى أن توصلت إلى المسافة المناسبة التى تقيها من برودة الجو الجليدى وتضمن لها أقل درجة من ألم وخز أشواك الأقارب».
وهكذا العلاقات بين البشر تحتاج إلى فن إدارة المسافات حتى لا يحدث التباعد الزائد عن الحد أو الاقتراب المبالغ فيه.
لقد علّمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة لكى يفهم الآخرون ما نكتب، وعلّمتنا حركة المرور أن نترك مسافة أيضًا بيننا وبين السيارة التى أمامنا؛ حتى لا نصطدم بها وكذلك علّمتنا حركة الحياة أن نترك مسافة بيننا وبين الآخرين حتى لا نصطدم بهم أو نتصادم معهم.
لكى يبقى الجميل فى عينيك جميلًا لا تقترب منه كثيرًا، البعض أجمل من بعيد فحافظ على المسافة بينك وبينه.
لكل إنسان منا عيوبه وأشواكه الخاصة التى قد لا تظهر لك ولا تشعر بآلام وخزاتها إلا عندما تكون على مسافة غير مناسبة منه.
البعض يعتقد أنه كلما ازداد قربًا ممن يحبهم فإن هذا سيشعرهم بالسعادة، وهذا ليس صحيحًا على الدوام، فحتى الاهتمام الزائد قد يفقد معناه وحميميته ويتحوّل إلى اختناق يشعر معه الآخرون بالضجر والتململ الذى قد يتحوّل إلى نفور وكراهية، فلكل إنسان خصوصيته وحدوده التى يحرص على أن يحترمها الآخرون مهما كانت درجة قرابتهم.
لذا احرص على ضبط مسافاتك مع الآخرين حتى وإن كانوا أبناءك أو أقاربك، فلن تخسر الناس من حولك إن تركت بينك وبينهم بعض المسافة التى تحترم خصوصيتهم وقدرتهم على التنفس، بل ربما تكون علاقاتك الإنسانية أجمل وأكثر قدرة على النمو والازدهار إن تركت لها المسافة الكافية للنمو.
إدارة المسافات فن يجب علينا تفهمه وإتقانه، فكن على مسافة مناسبة تسمح لك ولهم بالتنفس.
لا تقترب كثيرًا فتملَّكَ الناس ولا تبتعد عنهم كثيرًا فينْسَوْكَ وتبرد عواطفهم تجاهك وتذكر دومًا أن ضبط المسافات من أكبر سنن هذا الكون ودلائل عظمته، وأن سير الكواكب الدقيق مرتبط باحترام المسافات.
فلو اقتربت الشمس منا ميلًا واحدًا فقط لاحترقت الأرض ولو ابتعدت عنا ميلًا لتجمد كل ما حولنا.