رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مذكراتُ حكامِ مصرَ


مضتْ فترةٌ طويلةٌ تقتربُ منَ عشرِ سنواتٍ منذُ أنْ تنحى مباركٌ عنِ الحكمِ. وسطَ كراهيةٍ شديدةٍ لعصرهِ وحكمِهِ، كراهيةٍ كانتْ حماسيةً، ولمْ تكُنْ مبرّرةً، فشعبُنا لمْ يكرَهْ أبدًا حكامَهُ، إنّما كانَ طوالَ عمرِهِ يهتِفُ لهُمْ "بالروحِ والدمِ نفديكَ يا زعيمُ". وهوَ هتافٌ غريبٌ وبشعٌ، لمْ يهتفْ بِهِ شعب في العالمِ، خلافَ شعوبنا العربيةِ التي تموتُ منْ أجلِ "يعيشُ الزعيمُ"، هتفوا لسعد زغلول وللملك فاروق ولمحمد نجيب ولجمال عبدالناصر وللسادات، ولمبارك. الشعبُ الذي يهتفُ هذا الهتافَ ليسَ مغيبًا كما يتراءى للبعضِ، ولكنهُ شعبٌ واعٍ ومدركٌ لحقيقةِ هتافِهِ، فالشعبُ لمْ يضعْ فاصلًا بينَهُ وبينَ حكامِهِ، وفي اللحظاتِ التي كانَ الشعبُ يلتقي فيها معَ حكامِهِ، كانَ يعبِّرُ لهمْ عمّا يجيشُ في صدرهِ.
بعدَ رحيلِ مباركٍ أصبحَ الشعبُ ينتظرُ المذكراتِ التي تركها في صورةِ تسجيلاتٍ مطولةٍ، قالَ فيها الرئيسُ كلَّ شيءٍ قبلَ أنْ تدركهُ عدوى غضبِ الغاضبينَ في الربيعِ العربيِ. الظروفُ التي تعرضَ لها الرجلُ منْ مطالبتهِ بالرحيلِ والتنحي والمحاكماتُ والمرضُ والمستشفى والسَّجنُ، كانَ منَ المتعذرِ عليهِ فيها أنْ يختلى بنفسهِ ليكتبَ ما حدثَ معهُ في تلكَ الفترةِ، ولكنَّ الفضائياتِ نقلتْ لنا ما حدثَ بالتفصيلِ المملِ.
كانَ أولُ حاكمٍ مصريٍ يكتبُ مذكراتهِ هوَ الخديوِ عباس الثاني، كتبها في المنفى، كانتْ أيضًا تفيضُ مرارةً لما تعرضَ لهُ الرجلُ، بعدَ أنْ خلعَهُ الأتراكُ الذينَ كانوا يحكمونَ العربَ، بإيعازٍ منْ الإنجليزِ.
وكانَ آخرُ حاكمٍ مصريٍ سجّلَ مذكراتهِ وكتبها هوَ الراحلُ اللواءُ محمد نجيب، أولُ رئيسٍ مصريٍ لمصرَ، بعدَ ثورةِ 23 يوليو 1952. كانتْ مذكراتُ نجيبٍ تقطرُ أسى وحزنًا لحالِ البلدِ، وأيضًا ما جرى لهُ وامتهانُهُ، وسَجنُهُ بدونِ عقوبةٍ، حتى أفرجَ عنهُ الرئيسُ الساداتُ.
الرئيسُ جمال عبدالناصر لمْ تكنْ لهُ مذكراتٌ، ولكنْ ما رشحَ لنا عنْ كواليسِهِ، كانَ منْ خلالِ رجليْنِ، هما سامي شرف، سكرتيرُهُ للمعلوماتِ، ومحمد حسنين هيكل، وكلاهما أدخلهُ الرئيسُ الساداتُ السجنَ.
وتولى لطفي الخولي وموسى صبري الكتابةَ للساداتِ حتى مرحلةِ العبورِ في 1973، وبعدَ النصرِ وتحقيقِ السلامِ أملَى الرئيسُ الساداتُ مذكراتِهِ وأسرارَهُ أيضًا على الكاتبِ المعروفِ أنيس منصور، وقبلَ أنْ يُتوفى أنيس منصور اعترفَ أنَ الساداتَ استودعهُ أسرارًا لوْ أعلنَهَا فستُحدثُ في مصرَ لغطًا. كانَ الأمرُ يتعلقُ بمباركٍ! كلامُ أنيس منصور، تمكنُ إضافتهُ إلى الكثيرِ مما أشيعَ منْ أنَ الرئيسَ الساداتَ كانَ ينوي عزلَ مباركٍ، وأنَّ القرارَ كانَ في خزينةِ الرئاسَةِ، وكلامٌ كثيرٌ قيلَ في أعقابِ تنحّي مباركٍ، ولكنَ اليقينَ أنَّ رصاصاتِ الملازمِ خالدٍ الإسلامبوليِّ وزملائِهِ عطا طايل، وحسين عباس، لمْ تُنْقِذِ البلادَ، ولكنَّها جاءَتْ بمباركٍ ليجسُمَ على مصرَ ثلاثينَ عامًا.
أعتقدُ أنَّ مباركًا أملَى مذكراتِهِ، وهيَ عبارةٌ عنْ تسجيلٍ لمدةِ خمسينَ ساعةً، على اللواء سمير فرج في القواتِ المسلّحةِ عامَ 2008، وأنَّ التسجيلاتِ موجودةٌ لديهِ.
هناكَ روايةٌ غيرُ مؤكدةٍ أنَّ رئاسةَ الجمهوريّةِ لديها يومياتٌ مسجّلةٌ لكلِّ ما دارَ في مكاتبِ حسني مبارك منذُ فترةٍ طويلةٍ، وتلكَ اليومياتُ المصورةُ تُعتبرُ بمثابةِ وثيقةٍ شديدةِ الأهميةِ. وهوَ تقليدٌ تمَ استلهامُهُ منَ البيتِ الأبيضِ الأمريكيِّ، حيثُ تُسجَّلُ يومياتُ الرئيسِ الأمريكيِّ واتصالاتُهُ ومقابلاتُهُ تلقائيًّا. هناكَ أسرارٌ وكواليسُ لأحداثٍ جسيمةٍ حصلتْ، منها علاقتُهُ بأمريكا وصدام حسين، وكواليسُ غزوِ الكويتِ، وحادثُ الباخرةِ أكيلي لاورو.
نتمنّى أنْ تَظهرَ تلكَ المذكراتُ بطريقةٍ حقيقيةٍ، بدلاً منْ أدعياءِ المذكراتِ التي نقرأها كلَّ يومٍ في الصحفِ.