رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة الأسقف الزاهد فى المناصب الرسمية «2-3»


واظب القديس «غريغوريوس» على خدمة والده وإيبارشيته دون كلل، وكان القديس «باسيليوس» قد سُيم رئيسًا لأساقفة كرسى «قيسرية الكبادوك»، وقد رأى أن ينشئ كرسى أسقفية جديدة فى بلدة صغيرة تُدعى «سازيما»، ولم يرَ من يقيم عليها أسقفًا خيرًا من صديقه القديم «غريغوريوس» الذى رفض بشدة قبول هذه الرسامة، وحدثت بينهما مكاتبات ومراجعات فى هذا الشأن، وأخيرًا التجأ القديس «باسيليوس» إلى والده ليحثه على قبول الرسامة، واستعمل الوالد نفوذه، فخضع له القديس «غريغوريوس» مكرهًا، وفى ذلك يقول: «لقد أحنيت هامتى لا قلبى لقبول هذه الدرجة».
وعندما هم بالذهاب إلى إيبارشية «سازيما» بعد رسامته، تصدى له جند الإمبراطور «فالانس» الأريوسى بإيحاء من الأسقف «أنتيموس»، منافس القديس «باسيليوس»، مدعيًا أنها تدخل فى حدود إيبارشيته، فرجع القديس «غريغوريوس» دون أن يباشر مهام الأسقفية، وذهب لينفرد فى قرية صغيرة خادمًا لمجموعة من الفقراء فيها.
حدث أن والد القديس «غريغوريوس» كان قد ناهز المائة من عمره، فلم يترك ابنه القديس «غريغوريوس» فى وحدته طويلًا، بل دعاه ليساعده فى خدمة إيبارشية «نازينس»، فأطاع وترك عزلته مرغمًا، وكان أول عمل له أن أعلن لشعب «نازينس» أنه إنما قدم بصفة مساعدة لوالده فقط، دون أن يطمعوا بدوام هذه الخدمة. وفى عام ٣٧٤م رحل والد القديس «غريغوريوس»، وأصبحت الإيبارشية شاغرة. وهنا أراد القديس «غريغوريوس» أن يعود إلى وحدته، فحث الشعب على التشاور فى انتخاب أسقف جديد يخلف والده، ولما رأى تباطؤهم فى ذلك خرج سرًا من «نازينس»، وذهب إلى دير القديسة «تكلا» فى سلوقية من إقليم «إيزوريا»، وهناك انفرد متوحدًا مواظبًا على حياة الصلاة والتأمل فى الكتب الإلهية مدة نحو ست سنوات.
كانت كنيسة القسطنطينية فى ذلك الوقت تعانى من التعاليم الأريوسية وخالية من راعٍ أرثوذكسى حقيقى يعتنى بتضميد جروح جسدها، ولذلك أجمع الأرثوذكسيون فى تلك المدينة، على أن يجمعوا صفوفهم تحت رعاية القديس «غريغوريوس»، وبعد مكاتبات كثيرة وإلحاح مستمر وافق على أن يقوم بخدمتهم بشرط أنه متى حصلت تلك المدينة على راعٍ شرعى قادر على سياستها فهو يكون معفيًا من تدبيرها.
ذهب إلى القسطنطينية عام ٣٧٩م، اختارته العناية الإلهية ليخلص شعب تلك المدينة العظيمة فى ذاك الوقت من ظلام الأريوسية، ويصف نفسه فى وسط تلك المدينة وشعبها بأسلوب رائع ونفس متضعة، فيقول: «إنه كان أمرًا مذهلًا أن يُشاهد رجلًا حقيرًا جدًا وأعين عظماء العالم، من طائفة غريبة، مولودًا فى بلدة صغيرة، وكان إلى ذلك مختفيًا فى الوحدة، فى جانب مهمل من جوانب الأرض، متقدمًا فى السن، نحيف الجسم، برأس منحنٍ ووجه فاقد البهاء، فى ضمور من قِبل الإماتات والتقشفات وسكب الدموع، يرتدى أثوابًا رثة خالية من جنس الفضة والذهب. فهو فقير مسكين، يتخذ على ذاته محاربة الهراطقة المنتصرين والمؤيدين والمعضدين من أناس عظماء مقتدرين متصفين بالجاه والكرامات والسطوة والسلطة العالمية، أغنياء منتفخين من الكبرياء والادعاء بالعلوم الكاذبة، حاصلين على كل الوسائط البشرية لتأييد آرائهم».
غير أن قديسنا، القديس «غريغوريوس»، الذى كان فى الظاهر فاقدًا كل معونة وواسطة بشرية، كان باطنًا غنيًا بمواهب سامية، أى بتعمقه فى أعظم أسرار الكتاب المقدس.
بدأ فى القسطنطينية بإنشاء كنيسة صغيرة فى منزل أحد أقربائه، والتف حوله الأرثوذكسيون تجذبهم إليه فضائله المعروفة وعلى الأخص بلاغته العجيبة، وإذا بكنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية التى كانت مُضطهدة طوال أربعين عامًا بواسطة المؤامرات والقسوة، تنهض فى تلك الكنيسة المتواضعة، ولذلك دعاها القديس «غريغوريوس» كنيسة «أنستاسيس» أى القيامة، وهناك بين عظات كثيرة، ألقى عظاته الخمس عن «الثالوث المقدس» التى تُعتبر من أدبيات اللاهوت اليونانى، والتى أكسبته لقب الـ«ثاؤلوغوس» أى الناطق بالإلهيات. ويقول قديسنا: «إن كنيسة أنستاسيس قد أنهضت إلى حياة جديدة تلك الحقائق الدينية، التى كانت قد احتُقرت فيما سلفًا بقدر كبير، فهى المكان الذى فيه اكتسبنا الانتصار»، وقد تدفق عليها الجمهور أكثر من كنائس الدولة.
فاغتاظ الآريوسيون، ففى ليلة عيد القيامة عام ٣٧٩م، قام جمهور منهم صاخب من كنيسة القديسة صوفيا متجهًا نحو كنيسة «أنستاسيس»، حيث كان القديس «غريغوريوس» يُعمّد الموعوظين «أى الذين قبلوا الإيمان الأرثوذكسى حديثًا»، فقذفوا المصلين بالحجارة، وأصاب بعضها القديس «غريغوريوس»، وتوفى آخر، واعتُبر القديس «غريغوريوس» مسئولًا عن هذا الهياج! وقُدم للمحاكمة.
وهنا أود أن أذكر كلمة عن القانون رقم ١٥ من مجمع نيقية المسكونى المنعقد عام ٣٢٥م، والذى تتمسك به كنيستنا القبطية وبقية الكنائس الأرثوذكسية، والذى للأسف الشديد يجهله الكثيرون من رجال الكنيسة الحاليين لغياب الفكر الآبائى السليم والدراسات الآبائية والأمانة الأرثوذكسية.
يعتبر آباء الكنيسة أن المجامع المسكونية المقدسة المُعترف بها من أهم مصادر التعاليم والأنظمة المُكملة للكتب المقدسة والتقاليد، فالقرارات التى يصدرها عدد كبير من الأساقفة المجتمعين من أنحاء العالم المسيحى بعد مناقشة دقيقة وحوارات بناءة واتفاق جماعى، لها فى واقع الأمر قوة كلمة الوحى. وكانوا وفى مقدمتهم أمثال القديس أثناسيوس الرسولى والقديس باسيليوس الكبير والبابا كيرلس عمود الدين وغيرهم، يُكنون لقوانين مجمع نيقية المسكونى الأول احترامًا عميقًا، وكان القديس باسيليوس الكبير، الذى تردد الكنيسة القبطية يوميًا فى صلواتها القداس الذى وضعه والمعروف باسم «القداس الباسيلى»، يصرخ بأعلى صوته أن الـ٣١٨ أسقفًا الذين اجتمعوا فى مدينة نيقية كانوا ينطقون فى قراراتهم بإلهام الروح القدس، وأن من أعظم أمجاد أى أسقف أن يكون وريثًا لعقيدتهم، وأن قانون إيمان ذلك المجمع هو القانون العظيم القاطع. وبلغ من شدة احترام القديس باسيليوس لتعابير قانون الإيمان الذى وضعه مجمع نيقية والمعروف باسم «قانون الإيمان النيقاوى»، أنه لم يكن يجرؤ حتى على تغيير ترتيب الكلمات فيه.
وكان الفخر كل الفخر فى جميع قرارات مجمع نيقية على وجه التقريب لكنيسة الإسكندرية التى أرسلت فى شخص الشماس «أثناسيوس» الشعلة المضيئة لهذا المجمع، حتى أنه قيل: «لولا أثناسيوس لصار العالم كله أريوسيًا». وحافظت الكنيسة القبطية على تقاليد الآباء على مدى العصور ما خلا فى فترات الضعف والسعى نحو المناصب والكرامات.
فنقرأ فى «المجموع الصفوى» فيما يجب على البطريرك أن يحافظ عليه: «حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما ثبت عند الإجماع من أقوال الرسل، ثم المجامع المقبولة».
نستكمل فى الحلقة القادمة.