رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيكولوجية الاستصعاب والاستسهال «3»


إن معرفة الطريقة التى يفكر بها العلماء فى أى مكان تعكس وضعية هذه البلاد ومدى تقدمها أو تأخرها، وقد لاحظت حرص العلماء فى أوروبا وأمريكا على دراسة كل ما هو موجود فى محيطهم، حتى وإن كان بعيدًا عن التعامل المباشر مع الإنسان، لكنهم يدرسون الكائنات وسلوكها للاستفادة من سماتها وتطبيق هذه الاستفادة لصالح الإنسان.
ينشغل العلماء بدراسة حيوان يطلقون عليه «بطىء المشية» أو دب الماء أو «Tardigrade»، يتميز هذا الحيوان بأنه بطىء المشى، ويعتبر أيضًا أقوى وأغرب حيوان فى العالم، فهو حيوان لا فقارى صغير «مجهرى» يتراوح طوله بين ٠.٥ و١.٥ مم ويعيش فى جميع أنحاء العالم، من القطب الشمالى إلى القطب الجنوبى، ومن أعالى الجبال إلى الصحارى إلى البحار والأنهار، ويستطيع العيش دون ماء ولا هواء لمدة عشر سنوات، ويمكنه تحمل أكثر البيئات حرارة وبرودة على وجه الأرض، وهو الحيوان الوحيد الذى يستطيع العيش فى الفضاء الخارجى، ففى عام ٢٠٠٧ أُرسل فى تجربة فضاء علمية لمحطة الفضاء الدولية، وبقى على قيد الحياة طوال فترة التجربة، التى استغرقت ١٢ يومًا، وبدأ يتحرك ووضع بيضًا ففقس بنجاح، على الرغم من الضغط المنخفض والإشعاع الشديد ودرجات الحرارة المنخفضة والرياح الشمسية التى لا تهدأ، والحرمان من الأكسجين فى فراغ الفضاء، وعلى الأرض يستطيع أن يعيش لمدة ٢٠٠ سنة.
لماذا يشغل علماء أوروبا وأمريكا أنفسهم بهذا الحيوان، الذى إذا انتشرت صورته على صفحات التواصل الاجتماعى ستصبح مسار التندر والسخرية وتزيد من عدد التريندات فى فضائنا الإلكترونى، خاصة مع شكله البرميلى وأقدامه القصيرة التى يبلغ عددها أربعة أزواج ينتهى كل منها بمخالب؟! تعد بطيئات المشية واحدة من مجموعة قليلة من الأنواع التى تستطيع تعليق عملية الأيض الغذائى والدخول فى حالة السبات أو البيات، حيث يقل فيها النشاط الحيوى إلى أقل درجة ممكنة، وتقوم بذلك فى حال تعرضها لظروف حياة قاسية جدًا، ويستطيع بعض أنواع بطيئات المشية تحمل ذلك لمدة تصل إلى خمس سنوات أو أطول من ذلك فى حالات استثنائية، أن تنخفض معدلات الأيض أثناء حالة السبات إلى أقل من ٠.٠١٪، بينما ينخفض معدل المحتوى المائى إلى ١٪ من المعدل الطبيعى، وتستخدم بطيئات المشية آلية يطلق عليها الحالة البرميلية، وهى تقنيتها لمكافحة التجفيف، لتحمل الضغوط الأخرى، إذا استطاع العلماء فهم كيفية قيامها، هى وغيرها من الكائنات، بتثبيت جزيئاتها الحيوية الحساسة يمكنهم معرفة كيفية تثبيت اللقاحات، أو لتطوير محاصيل تتحمل الإجهاد ويمكنها أن تتكيف مع مناخ الأرض المتغير، ومن خلال دراسة كيفية تحمّل بطيئات المشية التعرض لفترات طويلة لفراغ الفضاء الخارجى، يمكن للعلماء توليد أدلة حول الحدود البيئية للحياة وكيفية حماية رواد الفضاء، ويمكن لدراسة بطيئات المشى المساعدة لطرح الإجابة عن السؤال المحير: هل يمكن للحياة الاستمرار على كواكب أقسى بكثير من كوكبنا؟
وإذا تركنا بطيئات المشية وعلماءها، وعدنا للواقع المصرى، فهل يمكن أن نعرف أجندة العلماء المصريين فى مجالات الأحياء والفيزياء والكمياء؟ ما الذى يشغل تفكيرهم؟ لماذا لا توجد برامج أو صفحات إعلامية تنشر الأبحاث المصرية فى كل المجالات؟
لماذا لا تبذل الجهات العلمية فى مصر جهدًا حقيقيًا فى نشر الموضوعات التى تبحثها، أو تحاول أن تقرب المفاهيم العلمية للناس وتترك الساحة خالية لآليات وقيم التفكير غير العلمى، ربما تخشى الجهات العلمية المصرية من سخرية المصريين، وهى صفة أصيلة فيهم، وكانت صفة محمودة لكنها فقدت معناها من كثرة سوء الاستخدام وتحولت إلى أداة للسفسطة وتسطيح الأشياء والابتعاد عن أى شىء جاد ورصين. لماذا لا تهتم الدولة بنشر الثقافة العلمية، فيتعرف النشء على تاريخ العلوم والفلسفة والمنطق.. صحيح أننا سنخسر تريندات عالمية، لكننا بالتأكيد سنكسب شعبًا يعيش ويسهم فى مسيرة الحضارة الإنسانية، ليس مطلوبًا من الجميع أن يكونوا علماء، ولكن اللازم علينا جميعًا أن نحترم ونقدر العلم والعلماء، وأن نحترم كل محاولة لتنمية مهارتنا الاستدلالية، وتقوية روح البحث والاستكشاف فى داخلنا.
وللحديث بقية.