رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد بيصار.. عقلية علمية واسعة وثقافة واعية


وُلِدَ فضيلة الإمام الأكبر د. محمد عبدالرحمن بيصار بمدينة السالمية، مركز فوة، بمحافظة كفرالشيخ فى ٢٠ أكتوبر ١٩١٠م. حفظ القرآن الكريم وجوَّده. اشتغل والده بالأعمال الحرة وتزوج فى بيت ريفى متواضع، من ربة منزل، اعتادت القراءة فثقفت نفسها، وتعلمت الإنجليزية بطلاقة، وأنجبت له ٣ ذكور، منهم الإمام الراحل و٦ سيدات.
الإمام الراحل بمعهد دسوق الدينى الأزهرى وبعد نجاحه بمعهد دسوق ألحقه والده بمعهد طنطا ليكمل فيه دراسته الثانوية، وكان شَغُوفًا بالتأليف، فألَّف رواية اسمها «بؤس اليتامى» فأثار عليه حفيظة أساتذته لاشتغاله بالتأليف، وهو عيب كبير فى نظرهم! فأجروا معه تحقيقًا كانت نتيجته أن ترك معهد طنطا إلى معهد الإسكندرية، حيث وجد فيه عقولًا متفتحة تشجع المواهب الفكرية. فانتقل إلى معهد الإسكندرية الثانوى، ثم التحق بكلية أصول الدين بالقاهرة، وتخرَّج فيها بتفوق سنة ١٩٤٩م، وتم تعيينه مُدرِّسًا بها، فجذب إليه الطلبة ولفت أنظار الأساتذة، وكان محبًا لقريته ويعمل لصالحها وشارك وهو شاب فى إنشاء دار للمناسبات بالقرية، بجوار مسجد سيدى أحمد الفاضلى بالجهود الذاتية.
وبعد أن انتقل للقاهرة ظل على علاقة وثيقة بقريته، فيحضر فى المناسبات، كما كان ينتدب للإصلاح بين المتخاصمين وللجلسات العرفية، حيث كان محبوبًا وكان مصدر ثقة الجميع، وكان وراء إنشاء مجمع المعاهد الأزهرية بالقرية، والذى ضم خمسة معاهد، وكان مرتبطًا بقريته حتى توفاه الله. وفى سنة ١٩٤٩م اختاره الأزهر فى بعثة تعليمية إلى إنجلترا، فانتقل بين الجامعات الإنجليزية، حيث نهل منها العلم الكثير، ثم استقر بكلية الآداب بجامعة أدنبره، ونال منها الدكتوراه بتفوق، وعاد بعدها أستاذًا بكلية أصول الدين.
سنة ١٩٥٥م رشَّحته ثقافته ليكون مديرًا للمركز الثقافى الإسلامى بواشنطن، وقام بشئون المركز خير قيام، وجعله مركز إشعاع لجميع الطوائف الدينية فى أوروبا، واستطاع الإمام بيصار أن يحظى باحترام وتقدير جميع الطوائف، وظل يدير المركز لمدة ٤ سنوات، وبعدها عاد إلى مصر أستاذًا بكلية أصول الدين. وفى سنة ١٩٦٣م اختاره الأزهر رئيسًا لبعثته التعليمية فى ليبيا، فواصل مجهوداته فى نشر الدعوة الإسلامية هناك. وفى سنة ١٩٦٨م صدر قرار جمهورى بتعيينه أمينًا عامًّا للمجلس الأعلى للأزهر، فاستطاع بثقافته العالية وخبرته العملية أن ينهض بأعباء هذا المنصب المهم وأدى واجبه على أكمل وجه.
ثم فى سنة ١٩٧٠م صدر قرار جمهورى بتعيينه أمينًا عامًّا لمجمع البحوث الإسلامية، واستطاع فى هذا المنصب أن يقوم بنهضة علمية كبرى، وأشرف على إصدار عشرات المصنفات العلمية القيمة، وتحقيق طائفة من أمهات مصادر التراث الإسلامى الخالد. سنة ١٩٧٤م خلا منصب وكيل الأزهر، فصدر قرار جمهورى بتعيينه وكيلًا للأزهر، ووكيل الأزهر هو المعاون الأول لشيخه، والمتولى تنفيذ قراراته، والقائم بعمله حين غيابه أو مرضه، وكان الدكتور بيصار الساعد الأيمن لشيخ الأزهر الإمام الدكتور عبدالحليم محمود، وكان يستشيره فى الأمور المهمة ويأخذ برأيه، ولهذا طلب تجديد خدمته أكثر من مرة إلى أن صدر قرار جمهورى بتعيينه وزيرًا للأوقاف وشئون الأزهر فى ١٥ أكتوبر سنة ١٩٧٨م.
تخصص فضيلة الإمام الأكبر د. محمد عبدالرحمن بيصار فى الفلسفة الإسلامية، ودرس جوانب هذه الفلسفة دراسة علمية دقيقة، وتعمق فى بحث وجوه الخلاف بين الفلاسفة وعلماء الكلام والصوفية، وسجَّل هذه البحوث فى كتبه ومحاضراته، وخرج من هذه الدراسات بنتائج مهمة لخصها فى بحث ممتع ألقاه فى المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد فى ٢٨ فبراير سنة ١٩٧٠م، وكان عنوان البحث: «إثبات العقائد الإسلامية» تتلخص فى ثلاثة مناهج وهى: «منهج المتكلمين» الذين يعتمدون على النص مع احترامهم للعقل، و«منهج الفلاسفة» الذين يعتمدون أوَّلًا على العقل مع إيمانهم بالنص، و«منهج الصوفية» الذين يعتمدون على الرياضة الروحية والمجاهدة النفسية، وخلص من نتائج بحثه إلى أن الحرية الفكرية التى منحها الإسلام للمسلمين فى شئون عقيدتهم تأتى تحت ضوابط أساسية، هى: حث القرآن الكريم الإنسان على التأمل والتفكير فى ملكوت السموات والأرض، وإشادة الإسلام بفضل العلم والمعرفة وتعظيمه لشأن العلماء، ورد شبهات الوافدين على الإسلام والمنحرفين عنه بمنطق عقلى رشيد. امتاز فضيلة الإمام الأكبر د. محمد عبدالرحمن بيصار بمواصلة البحث والدراسة فى أدق المعارف الفلسفية والعلمية وصياغتها فى أسلوب واضح دقيق يصل إلى العقول من أيسر الطرق، وترك للمكتبة الإسلامية العديد من المؤلفات العلمية القيمة، وأهمها: الوجود والخلود فى فلسفة ابن رشد، العقيدة والأخلاق فى الفلسفة الإسلامية، الحقيقة والمعرفة على نهج العقائد النسفية، تأملات فى الفلسفة الحديثة والمعاصرة، العالم بين القدم والحدوث، الإمكان والامتناع، شروح مختارة لكتاب المواقف لـ«عضد الدين الإيجى»، الإسلام والمسيحية، رسالة باللغة الإنجليزية عن الحرب والسلام فى الإسلام، رجلان فى التفكير الإسلامى، وهى دراسات عن حجة الإسلام أبوحامد محمد بن محمد الغزالى وإمام الحرمين الجوينى.
فى آخر يناير سنة ١٩٧٩م صدر قرار بتعيين فضيلة الشيخ الإمام محمد عبدالرحمن بيصار شَيْخًا للأزهر بعد وفاة الشيخ الإمام عبدالحليم محمود. وقد استهل عمله بتأليف لجنة كبرى لدراسة قانون الأزهر ولائحته التنفيذية ليستطيع الأزهر الانطلاق فى أداء رسالته العالمية الكبرى، ونظرًا لثقافته العلمية الواسعة عهدت إليه الحكومة السودانية إنشاء الدراسات العليا بجامعة أم درمان الإسلامية، فأقامها على أسس علمية، إن دلت فإنما تدل على عقلية علمية واسعة وثقافة واعية متنوعة. بدأ الشيخ الإمام محمد عبدالرحمن بيصار عمله فى مشيخة الأزهر بدراسة قانون تطوير الأزهر ولائحته التنفيذية لتعديله، بما يحقق له الانطلاق دون معوقات فى أداء رسالته الداخلية والعالمية، فنجح فى إرساء قواعد المنهج الفلسفى والعلمى فى الأزهر، ونهض به نهضة سجلها التاريخ له. يقول العلاّمة أ. د. على سامى النشار فى موسوعته الفلسفية العظيمة: «نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام»: «وفى حركة البعث الكبيرة للعالم الإسلامى الخالص، يقوم علماء أزهريون بمجهود علمى جبار فى إحياء وبعث «الفكر الإسلامى»: أما أولهم، فهو الأستاذ الدكتور محمد عبدالرحمن بيصار فى أبحاثه المتعددة الممتازة عن (ابن رشد) وتوضيح حقيقة فكره وعن (الغزالى) وفكره وفلسفته».
توفى الشيخ الإمام محمد عبدالرحمن بيصار فى ٧ مارس سنة ١٩٨٢م.