رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيكولوجية الاستصعاب والاستسهال «2»


أتاحت لى الظروف متابعة برنامج «وقت الطعام مع نادية» على منصة نتفلكس، الذى تقدمه «نادية حسين» الطاهية البريطانية الشهيرة، اكتسبت «نادية»، ذات الأصل البنجلاديشى، شهرتها بعد فوزها فى برنامج «المخبوزات البريطانية»، حيث تابعها ١٤ مليون بريطانى عبر شاشات التليفزيون، هذا النجاح تم تتويجه مع تكليفها بإعداد تورتة عيد ميلاد الملكة «إليزابيث الثانية» التسعين فى ٢١ أبريل ٢٠١٦.
شاهدتُ البرنامج مشاركة لابنتى التى أبدت إعجابها بالوصفات الجديدة التى تقدمها «نادية»، والتى تهدف لتسهيل عملية الطبخ، بحيث لا يستغرق وقتًا طويلًا، بما يسمح لمن يطبخ أن يقضى وقتًا مع أفراد أسرته، وقد جذب انتباهى أن البرنامج يقدم إلى جانب الوصفات اللذيذة فقرة فى غاية الأهمية عن إنتاج العديد من المواد الغذائية التى تدخل فى تحضير الطعام مثل، المشروم، الزبادى، سمك السلمون، الخميرة.. مشاهدتى لهذه الفقرة بقدر ما أفادتنى معرفيًا بقدر ما خلقت داخلى سؤالًا كبيرًا عما نفعله نحن المصريين فى حياتنا اليومية، عما نقدمه من إنتاج؟، ماذا لدينا؟ كيف نقضى وقتنا؟
من النماذج التى شاهدتها فى البرنامج:
زيارة لمزرعة لإنتاج المشروم، يغطى إنتاج هذه المزرعة جميع المتاجر الكبرى فى المملكة المتحدة، حيث ينفق البريطانيون ٤٠٠ مليون إسترلينى على شراء المشروم سنويًا، يعمل بالمزرعة ٢٤٠ عاملًا ينتجون ١٠٠ ألف عبوة مشروم كل يوم، يعملون من السابعة صباحًا حتى السابعة مساء، ولهم نصف ساعة راحة فقط فى اليوم، وعلى كل عامل أن يجمع ١٩ كيلو فى الساعة. ويتابع المسئول عن كل عنبر درجة حرارة العنبر ومستوى الرطوبة وثانى أكسيد الكربون بعد إغلاق المزرعة من هاتفه المحمول المرتبط بجهاز كمبيوتر يرصد هذه العوامل المؤثرة فى نمو الفطر.
هل سيكون هناك خطأ فى عقلى إذا ما قارنت المعلومات السابقة بمستوى أدائنا ومعدل الإنتاج اليومى لعمالنا فى أى مصنع من المصانع التى أُغلقت، لأن العمال لا يحصلون على حقوقهم، أو ربما لأنهم لا ينتجون ما يغطى تكاليف أجورهم أصلًا. ذهب البرنامج إلى مصنع لإنتاج الزبادى، يبلغ إنتاج المصنع اليومى مليون علبة زبادى طبيعى عضوى، ويستهلك المصنع ٦٠ ألف لتر فى اليوم، يستقدمها من العديد من المزارع، منها مزرعته الخاصة التى تبلغ مساحتها ألف فدان من الأراضى العشبية، وفى المزرعة التقت «نادية» بالشابة المسئولة عن رعاية القطيع المكون من ٢٢٠ بقرة وتستيقظ من الرابعة صباحًا، وتحلب القطيع مرتين فى اليوم، مرة فى الرابعة والنصف صباحًا، والثانية فى الثالثة والنصف ظهرًا، يتم حلب البقرات آليًا وتتم العملية على دفعات، كل دفعة ٢٠ بقرة، كل بقرة تنتج ٢٥ لترًا من اللبن كل ٢٤ ساعة، شابة واحدة مسئولة عن رعاية ٢٢٠ بقرة، وفى بلادى بقرة واحدة لا تدر ٦ لترات لبن يحتار فى رعايتها عشرة عمال.
كل العمال الذين التقى بهم البرنامج والمهندسين وأصحاب المزارع والمصانع يعملون من السابعة صباحًا حتى السابعة مساء، يعملون ١٢ ساعة، ٥ أيام فى الأسبوع أو يوميًا، ومع هذا لم يقدمهم البرنامج على أنهم أبطال، أو خارقون للعادة.. مثلما نفعل نحن مع طلبة الثانوية العامة الذين يتفوقون، ويدهشنا تفوق طالب والده بواب، أو سباك أو بائع فريسكا، ما علاقة التفوق الدراسى بمهنة الوالدين، الطبيعى أن يتفوقوا لأن الطبيعى أن يعمل كل شخص ما عليه.
هذه الفقرة كشفت دون قصد عن مقدار ما نعانى من استصعاب لأمور وضوابط عادية، وكشفت أكثر عن استسهالنا وتساهلنا أمام كل قيم الجدية والعمل، النوم مبكرًا، الاستيقاظ مبكرًا، تمسكنا بكل ما هو شكلى ودون معنى، وارتباطنا المخزى بمفاهيم وأنماط وصور ذهنية متكلسة.
فى إحدى الفقرات أرسل زوج «سائق شاحنة ضخمة» يستيقظ من الثالثة، ينام الساعة السابعة مساء، رسالة لنادية يطلب منها العون فى أن تعلمه كيف يختصر وقت تجهيز العشاء له ولأسرته المكونة من زوجته الممرضة فى إحدى الجمعيات الخيرية وأولاده الثلاثة، كى يقضى وقتًا أكبر فى الجلوس مع أفراد أسرته، دخلت نادية المطبخ معه وظلت زوجته وأبناؤه فى انتظار العشاء، لم تجر زوجته على المطبخ كى تضع لمستها، أو تراقب ماذا يحدث داخل مملكتها، كما نربى بناتنا فى بلادنا على ذلك.
فالرجل الذى يعمل من الثالثة فجرًا ويعود إلى بيته كى يجهز الوجبة الرئيسية لأسرته، ويبحث عن طرق طهى ووصفات سهلة ولذيدة كى يتوافر لديه وقت كى يستمع لمتاعب زوجته فى العمل ويوميات أولاده فى الجامعة ويحكى لهم عن يومه وما يتعرض له على الطريق- لم يقدمه البرنامج على أنه بطل، أو أنه الزوج الأعجوبة الذى يكدح ويشقى من أجل عائلته، بل يبدو أنه شىء عادى، طالما أنه يتم توزيع الأدوار ويتكفل كل شخص بعمل ما ينوط به دون فرض أو قهر، أو نماذج وقولبة.
«نادية حسين» ذاتها كتبت على حسابها يومًا: ليس من المعتاد فى ثقافتى «البنجلاديشية» أن يؤدى الرجل الأعمال المنزلية، فلقد كنت على السرير، الليلة الماضية، أتفقد حسابى على «تويتر»، وعبدالله كان يكوى الملابس على السرير بجانبى، ولو رأى أى من شيوخ بلدتى ذلك، أعتقد أنهم كانوا سيموتون على الفور.
وللحديث بقية