رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجنوب الليبى المفتوح على سلة المخاطر


فى ظل الأزمة الليبية التى أعتاد تناولها باعتبارها حالة استقطابية ما بين الشرق والغرب كاختزال ظل مقصودًا من أطراف عدة، ومنسيًا من آخرين بالنظر إلى التحدى الجغرافى الشاسع الذى يصعب من الإلمام بجوهره - يحضر اليوم الجنوب بـ«سلة مخاطر» متنوعة تهدد معادلات الأمن التى ستطال الشمال لا محالة، إن بقى التجاهل الحاصل على حاله، وفيما لو ظلت الإرادة غائبة عن شمول هذا الجنوب مفهوم الدولة الحقيقية ذات السيادة.
فقد تكبد الجنوب فاتورة باهظة جراء ما وقع فى مجمل المشهد الليبى طوال عقد كامل هو عمر الأزمة، اليوم هناك نذر لإمكانية صياغة توافق حقيقى، قد يشكل نقطة ضوء، سبقتها ربما للمرة الأولى رؤية متوازنة ووافية للجنوب، جاءت فى مشروع المستشار «عقيلة صالح»، رئيس البرلمان، التى اصطلح على تسميتها «المبادرة المصرية»، لكن تظل التحديات كبيرة، ويلزمها عمل جاد ومتكامل، حتى لا يمثل الإقليم الثقب الذى يبتلع ما يجرى العمل عليه الآن بجهد حقيقى.
تحدى التنظيمات الإرهابية المسلحة يمثل أبرز ما يواجهه الجنوب، ويأتى تنظيم «داعش» كأبرز التكوينات المهددة بصورة كبيرة، فالتنظيم حاضر فى ليبيا منذ سنوات وإن ظل يتنقل ما بين مناطقها، حتى استقر فى الجنوب بعد هزيمته فى مدينة «سرت»، التى كان يفضل استخدامها كمستقر ساحلى له فى نقطة المنتصف الاستراتيجية. لكنه دفع مع تنامى الأحداث فى الشريط الساحلى الشمالى، إلى إقليم «فزان» الجنوبى كى ينضم بعناصره إلى مجموعات متنوعة من الميليشيات وعصابات التهريب المنظم، تتنقل على امتداد يقارب «٢٢٠ ألف ميل مربع» هى مساحة إقليم «فزان» التقريبية، الذى يقطنه أقل من نصف مليون نسمة، حيث تمثل تلك الندرة السكانية تحديًا أمنيًا إضافيًا فى الوقت الذى تمثل فيه ميزة نوعية مهمة للعناصر المسلحة.
جدير بالذكر أن الإقليم تمتد فيه شرايين التدفق الاستراتيجى لكل من النفط والماء، الذى يغذى الشمال الشرقى والغربى على السواء، ليمثل عامل ضغط حقيقيًا فى حال تعرض لأشكال تهديد محتملة من جانب العناصر المسلحة الخارجة عن السيطرة، أيًا كان انتماء تلك المجموعات أو أهداف وجودها وعملها بالمنطقة.
المصادر الليبية الجنوبية والمحققون التابعون لقوات «الأفريكوم» الذين تابعوا تحركات مقاتلى «داعش» بعد مغادرتهم مدينة سرت، يؤكدون أن التنظيم أسس لـ«جيش صحراوى» يتكون من ثلاثة ألوية، وأن مجموعات من تلك الألوية كانت هى المسئولة عن الهجوم الواسع الذى شن على منشآت «النهر الصناعى العظيم» فى العام ٢٠١٧، واتبعتها بتدمير عدد كبير من أبراج الكهرباء المغذية لمدن وقرى الجنوب، على طول ما يقارب ١٠٠ كم تقريبًا.
فضلًا عن العديد من الكمائن وعمليات الإغارة التى يخرج مقاتلو تلك الألوية لشنها، بغرض الاحتفاظ بحالة السيولة الأمنية من خلال إرهاب أى مكون مسلح وطنى، بغض النظر عن تبعيته للغرب أو الشرق أو الجيش الوطنى على السواء. اليوم وبعد أن استتبت أوضاع «الجيش الصغير» التابع لتنظيم داعش، بدأ يتسلل تحت نسيج النزاعات البينية لتلك المنطقة، التى شهدت تنافسًا حادًا خلال أعوام الأزمة الليبية، فطرق التجارة والتهريب ما بين الجنوب الليبى ودول جوارها على خط الساحل والصحراء، ظلت عقودًا هى عنوان التنازع القبلى والإثنى لتلك الدول، التى لا تملك حدودًا حقيقية منضبطة ومؤمنة بين بعضها بعضًا.
تحدى امتدادات المكون البشرى لهذه المنطقة، وانقسامه داخل العديد من الدول، يصعب الأمر الذى شهد مزيدًا من التفاقم، جراء تفكك سلطة الدولة الليبية التى كانت حاضرة ما قبل ثورة فبراير، فالاتفاقيات العرفية التى كان يجرى احترامها، ومنحت «الطوارق» سيطرة على الممرات التى تربط الجنوب الليبى بدولة «النيجر»، فى الوقت الذى يسيطر فيه «التبو» على ممرات أخرى تربط تشاد وجانب آخر من النيجر مع الجنوب الليبى. هذه الاتفاقيات انهارت منذ العام ٢٠١٤، وبدأت الصراعات تتوالى ما بين هذين المكونين الكبيرين «التبو» و«الطوارق»، أصحاب النفوذ والسيطرة على مساحات هائلة من الأراضى، وعلى حجم معتبر من التجارة الشرعية وغير الشرعية، فضلًا عن تواصل وتقاسم للمهام وتبادل للمصالح، مع فصائل ومجموعات مسلحة معارضة لأنظمة تلك الدول ولها توجه انفصالى تؤسسه وتمارسه على الأرض.
هذه المناطق وتلك الممرات بالخصوص ظلت فى السنوات الأولى للأزمة الليبية تجرى مراقبتها من قبل القاعدة الفرنسية التى شيدت فى «ماداما» بالنيجر، فى المنطقة الحدودية القريبة من ليبيا وتشاد والتى كانت مسرحًا حقيقيًا لتحالف المسلحين المحليين، مع القادمين من التنظيمات الإرهابية الذين دخلوا فعليًا على خط استثمار حالة السيولة المشار إليها.
اليوم وبعد منتصف العام ٢٠١٨ شيدت قوات «الأفريكوم» الأمريكية، قاعدتها الكبيرة المطورة شمال «نيامى» عاصمة النيجر بالقرب من حدودها مع ليبيا ومالى، بعد ما لا يقل عن «١٠ عمليات» إرهابية تعرضت لها القوات الأمريكية بهذه المنطقة ما بين أعوام ٢٠١٥ و٢٠١٧، وباستخدام «الطائرات المسيرة» الحديثة من طراز «MQ- ٩ Reaper» تقوم الأفريكوم بمهام رصد جوى شامل، للتمدد الإرهابى وللارتكازات المسلحة، بالأخص التابعة لتنظيم «داعش»، حيث تدخلت فى مرات عدة لتنفيذ هجمات جوية ضد قيادات أو مجموعات من «الجيش الصحراوى»، أسهمت فى تقليص تمدده بداخل ليبيا وحدت كثيرًا من حرية انتقاله عبر الحدود، وتواصله مع المكونات الأخرى المسلحة فى تشاد ومالى على وجه التحديد.
لكن يظل التنظيم من خلف عيون وآذان المسيرات الأمريكية المحلقة على مدار الساعة، قادرًا على أن يعمل بالعناصر المحلية المساندة له والتى تتبادل وتتقاسم معه المصالح، كى يعزز-ولو بشكل مقيد قليلًا- من نفوذه وإمكانيات تمدده.
تحديات الجنوب الليبى كبيرة ومتنوعة ولا تقف عند حد الاختلال الأمنى الواسع رغم فداحته، خاصة عندما يكون الوضع الإنسانى شاهدًا على قصور عميق فى الخدمات والبنية التحتية، مما يجعل التحدى مركبًا فى ظل تنامى التحدى الأمنى الذى يتغذى على هذا القصور، ويتمدد ليخلق أوضاعًا تصعب معالجتها دون حزمة متكاملة من الدعم، تشمل الأمن بالضرورة، لكنها لا تقف عنده وحده، فالجنوب الليبى يحتاج إلى صيغة جديدة تمامًا، وإلى إرادة فولاذية من الليبيين وحلفائهم من دول الجوار.