رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد فؤاد عبدالباقى.. صائم الدهر «2-2»



له «جامع مسانيد صحيح البخارى»، وهو كتاب يجمع أحاديث كل صحابى أخرج له البخارى على حدة، ورتب أسماءهم حسب الحروف الهجائية، وهو بذلك صورة أخرى لصحيح البخارى المرتب على كتب الفقه وأبوابه، تقدم بهذا العمل إلى مجمع اللغة العربية لنشره، فشكّل المجمع سنة ١٩٤٣م لجنة من أعضائه، ضمت أحمد بك إبراهيم والشيخين إبراهيم حمروش ومحمد الخضر حسين لدراسة الكتاب، فأشادت بالعمل والجهد المبذول فيه، وانتهى الأمر باعتذار المجمع عن نشر الكتاب، محتجًا بأن العمل أدخل فى باب السُنة منه فى باب اللغة! وظل حبيس الأدراج ولم يُطبع الكتاب فى حياة مؤلفه، حتى نُشر بعد وفاته بفترة طويلة سنة ١٩٩١.
كما دخل «محمد فؤاد عبدالباقى» ميدان فهرسة السُنة النبوية من باب الترجمة، دخل أيضًا ميدان فهرسة ألفاظ القرآن من الباب نفسه، فقد ترجم كتاب «تفصيل آيات القرآن الكريم» لـ«جول لابوم» عن الفرنسية، ونشره سنة ١٩٣٤م، لكنه لم يكن كافيًا لسد الغرض، فرغب فى وضع معجم دقيق لألفاظ القرآن يُعين الباحثين فى الوصول إلى أى آية كريمة فى القرآن إذا استعان بكلمة منها، وتطلب منه ذلك أن يُفرغ كل الكلمات الواردة فى القرآن الكريم، ويرتبها حسب حروف المعجم، مع الأخذ فى الاعتبار ردها إلى أصولها اللغوية. بذل المؤلف جهدًا مشكورًا فى وضع كتابه، مستعينًا بكتابه «نجوم القرآن فى أطراف القرآن» للمستشرق الألمانى «فلوجل»، الذى طُبع لأول مرة سنة ١٨٤٢م، مراجعًا ما يجمعه على معاجم اللغة وتفاسير الأئمة اللغويين، عارضًا ما يجمعه على الثقات من أصدقائه من علماء اللغة، حتى إذا اطمأن إلى عمله دفعه إلى دار الكتب المصرية، فأجازت نشره بعد أن شكلت لجنة لذلك، فخرج فى أحسن صورة وأبهى حُلة.
جاء عمله مكتملًا، لم يستدرك عليه أحد من العلماء سقطًا فى معجمه، من فرط مبالغته فى المراجعة وحرصه الدائب على الدقة، وكان هذا المُعجم خاليًا من الخطأ؛ لأنه يقوم على كتابه، ويعين الباحثين فى الوصول إلى مبتغاهم، وقد تلقت الأمة هذا العمل بالقبول، وانتشر الكتاب وذاع صيته، فلم تخل منه مكتبة لعظم فائدته.
لم يكن لمثل هذه الأعمال العظيمة أن ترى النور لو لم يكن وراءها صبر شديد، وعزيمة قوية، ودقة متناهية، وحياة منضبطة، وتوحيد للهدف، وتجرد وإخلاص، وهكذا كانت حياة الرجل، وسجلت لنا ابنة أخيه الكاتبة الأديبة اللامعة والمؤرخة القديرة د. نعمات أحمد فؤاد تصور حياة عمها بقولها: «وحياة الرجل الخاصة تدخل فى باب الغرائب، فنحن نسميه صائم الدهر، فكان يصوم الدهر كله لا يفطر فيه إلا يومين اثنين، هما أول أيام عيد الفطر، وأول أيام عيد الأضحى، وطعامه نباتى، وكان يصوم بغير سحور.. أى أنه يتناول وجبة واحدة كل ٢٤ ساعة، وكان محافظًا فى كل شىء، فزيه يتكون من البدلة الكاملة صيفًا وشتاءً.. وكان زاهدًا فى الاجتماعات والتعارف، يفسر هذا وكأنه يعتذر: إن التعرف إلى الناس، تقوم تبعًا له حقوق لهم والتزامات واجبة الرعاية والوفاء، وليس عندى وقت لهذا، ولا أنا أطيق التقصير فيه لو لزمتنى».
امتد به العمر حتى بلغ العقد التاسع، لكنه ظل متمتعًا بصحة موفورة، ونشاط لا يعرف الكلل، وحياة منتظمة أعانته فى إنتاج الأعمال التى يحتاج إنجازها إلى فريق من الباحثين، وذاع صيته فيما كتب، فانتشرت كتبه شرقًا وغربًا، وعم الانتفاع بها، وظل يؤدى رسالته حتى توفى فى سنة ١٩٦٧م.
من أسوأ الجرائم التى غلّظت الكتب السماوية نتائجها، وشدد الباحثون فى الكلام عنها، وأنكروا على مرتكبها «جريمة القتل»، تلك الجريمة التى تعكس نفسًا همجية مترخصة فى النظر لقيمة الحياة الإنسانية، وهى- مع ذلك- من أكثر الجرائم انتشارًا فى زماننا! ويتخذ القتل صورًا شتى، ويعاقب عليها القانون، وترفضها الفطرة الإنسانية، لكن من الصور التى ربما لا يتنبه لها الناس فى غمرة العمل للذات، أو العصبية للاّفتات:
صور القتل المعنوى، بالتجاهل والإهمال، وربما بالجحد والإلغاء، وربما بالتشويه والتزييف والإهانة، وهذا النوع من القتل مؤلم شديد، لأن القتيل الذى أزهقت روحه قد استراح، أما الذى يقابل بالتجاهل فهو يُقتل كل يوم، ويُداس على عنقه كل يوم، ويُحتقر كل يوم.. وليس هذا شأن أهل المروءات والإنصاف.
وفى زماننا هذا ظهر عشرات المبدعين والعظماء من علماء المسلمين ومبدعيهم، ممن كانوا غررًا فى جبين الفكر، وشموسًا فى سماء العلم والدعوة، نسينا أسماءهم وكتبهم ومواقفهم وجهادهم، فى حين يرتفع من هم دونهم علمًا وسنًا وفضلًا.. وإلا فأين نحن من العالم الجليل محمد بك الخضرى، ومحيى الدين عبدالحميد، والإسكندرى، والغمراوى، وأحمد شاكر، وحفنى بك ناصف، وأشباههم من المظاليم؟
ومن الناس الذين لا يزالون يقابلون بكثير من التجاهل والجحود المرحوم الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقى، ذلك الأستاذ الجليل، الذى خدم القرآن والسُنة خدمات جليلة، لم يطقها كثيرون غيره، لم يتخرج فى جامعة، ولم يحصل على شهادة عالية، كما كتب الأستاذ: محمد سيد بركة، مثل الرافعى والعقاد وابن باز وابن عثيمين، لكنه صنف فريد من الرجال القمم الشوامخ، الذين تركوا للأجيال اللاحقة أعمالًا خالدة، عمل فى التدريس، والترجمة، ثم فرغ نفسه بعد ذلك للعلم، والتصنيف، قام منذ أوائل القرن بما يقوم به الكمبيوتر الآن، حين حاول تيسير البحث فى القرآن وفى دواوين السُنة الكبرى بحيث يجد الباحث طلبه بيسر، حتى إن الشيخ أحمد شاكر لما أخرج عبدالباقى مفتاح كنوز السُنة ذكر أنه كان يمكنه أن يوفر شطر عمره لو كان «المفتاح» قد ظهر قبل ذلك بعدة عقود.
ويقول هو عنه: «لئن كان كتابٌ من عند غير الله له أوفر نصيب من الصحة، لقد كان هذا الكتاب.. ووالله ما أقدمت على وضعه، وإرهاق نفسى، وإضناء جسمى، وإنهاك قواى فى عمله، والدّأب فى ترتيبه وتنسيقه، وإعادة مراجعته مرات متعددة، إلا لما أيقنت من شدة الحاجة إليه، وفقدان ما يسد مسده مما ألف فى بابه».