رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيكولوجية الاستصعاب والاستسهال «1»



كثيرًا ما نقول إننا شعب بدون كتالوج.. نستطيع أن نأتى بما يبهر العالم ويجعله يقف مشدوهًا تحية واحترامًا، وفى الوقت نفسه نحن الشعب الذى لا يلتزم بأبسط قواعد المرور فى الشارع، أو المحافظة على النظام أو النظافة فى الأماكن العامة.
والمدهش أن تفعيل القانون وفرض العقوبات على المخالفين لم يعد محل تجاهل أو اعتراض الطبقات الدنيا فى المجتمع المصرى، التى يمكننا أن نصمها بقلة الوعى، وارتفاع الأمية، لكن هذه الروح الفاسدة انتشرت حتى طالت الكثير من المثقفين والكتاب.
قد يكون مفهومًا اعتراض شخص أمى، فقير روحيًا وماديًا، على تغليظ العقوبات لمخالفات معينة، كقيادة السيارة دون ربط الحزام، أو استخدام الموبايل أثناء القيادة، أو فرض رسوم على من يرسب فى الجامعة، لكن ما يدعو للحيرة، أن تجد كاتبًا متحققًا ومشهورًا، يستنكر تغليظ العقوبات على مخالفى القانون، أن تلاحظ أن النغمة السائدة على صفحات المثقفين هى الاعتراض على القوانين التى يخضع لها من نعرف أنهم يتسمون بالتسيب والإهمال، من قائدى السيارات أو طلبة الجامعة الذين يتكرر رسوبهم، وسأركز على هذا الموضوع من موقعى كعضو هيئة تدريس بالجامعة.. وكما هو معروف لكل من درس فى الجامعة أنه من الصعب الحصول على تقدير امتياز، ويتطلب هذا التفوق درجة عالية من الانتباه والاجتهاد من الطالب، فإنه من الصعب أن يرسب طالب فى مادة إلا إذا كان متغيبًا تمامًا عن حضور المحاضرات أو لم يفتح كتاب المادة، إلا وهو فى طريقه إلى الامتحان.
الحالات الطبيعية تنجح بتقدير متنوع من مقبول إلى جيد إلى جيد جدًا، والنجاح لا يتطلب أكثر من تقدير مقبول.
فأين الصعوبة أو التضييق الذى يجعل الكثيرين يسخرون من أو ينتقدون القرار؟
البعض ينظر لضخامة الغرامة المفروضة فى الوقت الذى يتغاضون فيه عن ضخامة ما تتحمله الدولة لدعم التعليم الجامعى، وأن الحق فى مجانية التعليم يجب ألا يضر بالصالح العام، كما أن هؤلاء الطلاب هم من أضاعوا على أنفسهم فرصة التعليم المجانى التى كفلتها لهم الدولة بتقصيرهم ورسوبهم.
يتحجج البعض بزيادة العبء على الفقراء، وأن هناك طلابًا فقراء ويصرفون على أهلهم.. والحقيقة أن الطلاب الفقراء هم الأكثر حرصًا على الاجتهاد والنجاح، لأن النجاح والحصول على شهادة جامعية، سيحسن وضعهم الاجتماعى والوظيفى، كما أن الطلاب الذين يدخلون الكليات العملية ككليات الطب والهندسة.. لا تسمح طبيعة الدراسة لهم بالعمل فى مكان آخر، ومن يسعى لدخول هذه الكليات يعرف نظامها وطبيعة الدراسة بها.
ولأن عدم التروى أو التفكير هو السمة الغالبة على بوستات «فيسبوك»، فإن أيًا من الكتابات المعارضة لم تقرأ القرار كله، هى سمعت به فقط، وإلا لوجب عليهم الانتباه للضوابط والاستثناءات التى حددها القرار لمن تحدث له ظروف طارئة، حيث نص القرار على أنه يجوز لرئيس الجامعة بعد موافقة مجلس الجامعة، بناء على اقتراح من مجلس الكلية المعنية، منح إعفاء من الرسم المنصوص عليه، كله أو بعضه للطلاب غير القادرين على سداده، وذلك وفقًا للضوابط والاشتراطات التى يضعها المجلس الأعلى للجامعات فى هذا الشأن.
رد النخبة المثقفة حول هذا القرار وغيره من القرارات الأخيرة بزيادة غرامات مخالفات المرور والسخرية من إحالة الذين امتنعوا عن التصويت فى انتخابات مجلس الشيوخ للنيابة العامة.. هو مؤشر خطير على انزلاق الأمة إلى هاوية الاستسهال، والتهاون، إن النظر إلى ضخامة العقاب والتغاضى عن عظم المخالفة، يشير إلى ظاهرة على مستوى الأفراد تعرف فى الدراسات الاجتماعية بتأثير الاستصعاب والاستسهال، وهو انحياز معرفى يتجلى بميل المرء إلى المبالغة فى تقدير احتمال نجاحه فى مهمة يُنظر إليها على أنها صعبة، وأيضًا ميله إلى الاستخفاف بقدرته على النجاح فى إنجاز مهمة يُنظر إليها على أنها سهلة.
ويحدث تأثير الاستصعاب أو الاستسهال على سبيل المثال عندما يُبدى الأفراد درجة من ضعف الثقة عند الإجابة عن أسئلة سهلة نسبيًا، وعندما يُظهرون درجة من فرط الثقة عند الإجابة عن أسئلة صعبة نسبيًا، وقد وجد العلماء أن جميع مطلقى الأحكام يُظهرون تأثير الاستصعاب أو الاستسهال فى جميع المواقف الواقعية تقريبًا، ولعل هذا التأثير يفسر بعضًا من الكتالوج المصرى الذى أوشك على الاهتراء.
وللحديث بقية.