رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اعتز بفنك.. بعيدًا عن دخلاء الفن!


هل هناك ذرة من شك في أذهاننا؛ أن الفنان الحقيقي الملتزم بقضايا الوطن والإنسان؛ هو من يسعى إلى الارتقاء بالوعي الفردي والجمعي عبر تقديم فنون راقية ممتعة؛ تستطيع أن تعكس وتعبِّرعن أحلام الناس وتطلعاتهم نحو الانحيازالتام لثقافة الجمال؛ واعتناقها كوسيلة وغاية ضد كل أشكال القُبح؟

قد ينبري من يقول لنا: إن الفن مرآة المجتمع! هذا صحيح.. ولكن ما نراه على الساحة المصرية الآن من ممارسات الدخلاء على دنيا الفنون؛ هو رد فعل طبيعي ومتوقَّع، وإنتاج مشوَّه جاء وليدًا لانحدارالذائقة الجمالية وسط الجموع، وأبلغ دليل على ذلك هو ما نشاهده في مختلف المجالات من أفلام ومسلسلات وأغانٍ هابطة؛ وهو مايشي بسيطرة فلسفة العوائد المادية على أفكارالفنانين والفنانات وكتَّاب السيناريو والمخرجين؛ بل سيطرت ـ مع الأسف ـ على اتجاهات الشعراء كتاب الأغاني، وكان من المنتظر والمفترض أن يكون الشعراء هم طليعة الباحثين عن الجمال في اللفظ والمعنى والأهداف النبيلة، تلك الأهداف التي تعي قيمة وأهمية جذور الفن المصري الأصيل وضرورة الحفاظ عليه من التردِّي والتدنِّي، ويحدث هذا من غيرالمتخصصين وتجار المقاولات سعيًا لإرضاء بعض الشرائح التي نبتت في تربة المجتمع الانفتاحي؛ ونمت وترعرعت كالحشائش الضارة التي تنبُت وسط أحواض الورود ! ولكن ماالحيلة أمام من يروِّجون للمقولة الشهيرة: "الجمهور..عاوز كده " !

وللحقيقة.. فإن هذه المقولة ـ غيرالأمينة ـ تظلم الجمهورالواعي المتعطش إلى الفن الراقي، وأصحاب هذه المقولة والمروِّجون لها؛ يدفنون رءوسهم الفارغة في الرمال، ويخشون من الاعتراف بالحقيقة المُرَّة بأنها أزمتهم النفسية التي ألقت بظلالها القاتمة على الضميرالفني !

لقد غاب عنَّا أن هذا الانحدار وصل إلى هذا المستوى المتدنِّي؛ نتيجة عدة عوامل ومؤثرات كثيرة يطول فيها الشرح والتحليل، فبعد انحسار موجات الفن الأصيل نتيجة الهجمات الضارية عليه من المدَّعين بأن الفنون بصفةٍ عامة ـ وبخاصة الأغاني والموسيقا ـ ضد جوهرالدين، وأن المسرح والسينما دعوة صريحة للفسق والفجور، وأن فن الرسم والنحت رجسٌ من عمل الشياطين؛ ويقصد بهم الفنانين التشكيليين ! وما زاد الطين بلَّة؛ أن مواقع التواصل الإجتماعي استطاعت أن تطلق جيوش "السوس" لينخر في أساس عملية الإبداع لدى المبدع والتعتيم على مشاعر وذائقة المتلقي، وتحكَّم من يملكون رأس المال بفرض مايسمونه فنًا على حساب المضمون والجوهر؛ فطغى الزبد ـ الذي لابد أن يذهب جُفاء ـ على سطح بحارالفنون وشواطئها !

ولعل مايحدث الآن ـ إلا من رحم ربي ـ من الدخلاء على صناعة الفن؛ يذكِّرنا بما حدث من طبقة "أغنياء الحرب" الذين أفرزتهم فترة مابعد الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، حين اقتحموا صناعة السينما في مصر لاستثمار الأرباح والعوائد المالية التي جنَوْها من التجارة في قوت الشعب، والتعامل مع معسكرات جيش الاحتلال بطول البلاد وعرضها، وبرغم رضوخهم لطلبات القصر والاحتلال في إنتاج نوعية معينة من الأفلام، امتلأت بمشاهد الملاهي الليلية والراقصات، دون التطرق إلى الحديث عن الجلاء أوالحريات ومعالجة القضية الوطنية وقتذاك، إلا أن رجل الرأسمالية الوطنية الحقيقية "طلعت حرب"؛ قام بالتدخل لإنقاذ الإنتاج السينمائي المصري وأنشأ شركة "ستوديو مصر"؛ والتي نجحت بدورها في الخروج ببضعة أفلام تُعد الآن من العلامات الفارقة في تاريخ السينما، ويرصد المؤرخون والمتابعون لحركة الفن السينمائي؛ أن عدد دورالعرض السينمائي وصل إلى مايقارب مئتي وخمسين دارًا للعرض في بداية الخمسينيات، كما وصل عدد الاستوديوهات إلى خمسة ستوديوهات، وتتباهى بوجود أكثرمن اثني عشر ساحة "بلاتوه " للتصوير، وحين تداركت الدولة أهمية دورالفن السينمائي في صناعة وتشكيل الوعي القومي؛ قامت بإنشاء الشركة العامة لاستوديوهات السينما، التي ضمت إليها ستوديو مصر، وكانت استراتيجيتها في الإنتاج هي إنقاذ هذه الصناعة من الدخلاء على الفن والفنون.

إننا لن نفلح في إعادة الفن الأصيل؛ ليقود قافلة القوى الناعمة للجمال في نفوس المصريين بمجرد الكتابة عن الأمنيات الطيبة بعودته للريادة، ولكن من الضروري أن تفعل كل المحاولات والمقترحات الجادة التي تهدف إلى إصلاح حال الفن والاعتزاز به وتعظيم دوره،وقد استوقفني اعجابا حملة "اعتز بفنك" التي يتبناها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ليس أمرًا أو توجيهًا، وإنما أملًا ورجاءً أن يستعيدالفن المصري الأصيل مكانته التي يتمتع بها، وجعل الفنانين سفراء فوق العادة أينما ذهبوا،ومحاولة استدعاء الحاضر بما في الماضي من قيم نبيلة. وهي دعوة للحوار وإثراء المناقشات بغية استعادة أجواء إيجابية أسهمت في إعلاء قيمة الفن.

كما نرجو تدخل يد الدولة وعلى رأسها وزارة الثقافة؛ لإعادة الاحتفال بـ "عيد الفن" الذي أقيم لمدة وجيزة في ثمانينيات القرن الماضي؛ ولظروفٍ ما توقفت هذه الاحتفالية التي كان يتم فيها تكريم كل من قدموا الخدمات العظيمة للفن المصري، ثم أعيد إحياء فكرتها بتحديد يوم ميلاد موسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب" فى 13 مارس موعدًا دوريًا لإقامة فعاليات عيد الفن المصري، ولكن وسط خضم الأحداث الجسام التي مرت بمصر في السنوات الماضية؛ تاهت معالم قرارات هذه الاحتفالية وسط ضبابية كثيفة غير مبررة.

ونحن ـ بكل الأمل ـ مازلنا ننتظر هذا التفعيل المثمرالجاد؛ آملين كل الأمل في لفتة حضارية من السيد رئيس الجمهورية للفن والفنون؛ رغم مسئولياته ومشغولياته تجاه الوطن وقضاياه في مجالات الحياة كافة.

رفقا ربنا من دخلاء الفن..وفن الدخلاء!
- أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون