رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الإسكيم» الرهبانى


«الإسكيم» المقدس، أو «الإسكيم» الرهبانى، مشتق من الكلمة اليونانية «إسكيما» eskima، وباللغة القبطية: cxhma وباللغة الإنجليزية Schema، أى الشكل المقدس. وهو عبارة عن قطعة من الجلد المضفر ضفيرتين به ١٢ صليبًا «رمزًا للفضائل الاثنتى عشرة التى يجب أن يتحلى بها الراهب طوال حياته الرهبانية سواء كان راهبًا أو أسقفًا التى هى: الإيمان، الرجاء، المحبة، الطهارة، البتولية، السلام، الحكمة، البر، الوداعة، الصبر، طول الأناة، النسك».
وعندما يبلغ الراهب درجة عالية من النسك، وليس أى راهب، يصير راهبًا «إسكيميا» أى يوهب له «الإسكيم»، وعندما يلبسه يحيط بصدره وظهره «ويخلعه عند النوم»، وله طقس خاص بصلوات كثيرة ويقوم الأب رئيس الدير، ويكون من لابسى الإسكيم، برشم «الإسكيم» بثلاث رشومات ويُلبسه للراهب الناسك ويقول له: «البس عليك خاتم عربون ملكوت السموات». وقد ألبسه القديس أنطونيوس الكبير للقديس مكاريوس الكبير، وكان الأنبا أنطونيوس، كما يقول التقليد الكنسى، هو أول من لبسه من يد ملاك الرب بأمر إلهى.
أما تاريخ الإسكيم، فقد لبسه الرهبان الأوائل ولهذا تسموا باسم «لباس الصليب» وباليونانية «استفروفورس» Stavro-forus. ثم صار بعد ذلك هو لباس كبار النساك «وكان يُختار منهم الأساقفة».
ولكن للأسف الشديد فى زمن ضعف الكنيسة وعدم دراية القائمين عليها بتاريخ هذا الإسكيم، قام من لا يرتدى هذا «الإسكيم» بإلباسه لمن لا يستحق، فكيف لأسقف عاش فى الرهبنة بضعة أشهر يكون من لابسى الإسكيم؟ فانطبق عليهم القول: «من لا يملك أعطى وعدًا لمن لا يستحق» فاختلط الحابل بالنابل!.
وقد ألغى قداسة البابا شنودة الثالث إلباس الإسكيم للآباء الأساقفة الجدد باعتبار أنه «درجة رهبانية» وليس «درجة رعوية» واستبدل به طقس «عشية الرسامة» على أساس أنه يصعب على الأساقفة أن يحيوا حسب طقسه. ولئلا ينقرض هذا الطقس قرر قداسة البابا شنودة الثالث أن يلبسه بعض رؤساء الأديرة بادئًا بثلاثة منهم وهم: الأنبا مينا آفامينا، أسقف دير مار مينا بمريوط العامر «فى ٣٠ يناير١٩٩٦- تنيح فى ١٢ ديسمبر ١٩٩٦»، الأنبا صرابامون، أسقف دير الأنبا بيشوى العامر «فى ٣٠ يناير ١٩٩٦- تنيح فى ٨ مارس ٢٠٢٠»، الأنبا متاؤس، أسقف دير السريان العامر «فى ٣٠ يناير١٩٩٦- أطال الرب فى عمره).
وفى الحكمة المعهودة للبابا شنودة الثالث فقد اختار يوم ٣٠ يناير الذى يوافق احتفال الكنيسة القبطية بتذكار نياحة القديس الأنبا أنطونيوس الكبير، كما أن البابا شنودة الثالث كان من لابسى الإسكيم وقد ألبسه إياه البابا كيرلس السادس عندما أقامه أسقفًا على التعليم. كما ألبسه البابا شنودة الثالث لكبار النساك فى ديرى السريان بوادى النطرون والقديس مينا العجائبى بمريوط.
وعلى لابسى «الإسكيم» شروط حازمة لا بد أن يطبقوها: «١» تلاوة كل سفر المزامير، وعددها ١٥١ مزمورًا، يوميًا «نهارًا وليلًا» علاوة على التسبحة اليومية، «٢» عمل ٥٠٠ ميطانية يوميًا «أى سجود متواتر أمام الله فى قلايته الخاصة»، «٣» الالتزام بالسكوت والصمت، «٤» قراءة الكتاب المقدس بكثرة مع قراءة سير القديسين، «٥» الصوم، وعدم أكل اللحوم، طول حياته، «٦» التقليل جدًا من الطعام والشراب حتى يصل للصفاء النفسى والذهنى والنمو فى الروحانية.
من القضايا التى شغلت فكر الآباء القديسين هى الرهبنة وكيفية التأكد من عملها بشكل صحيح داخل حقل الكنيسة. فينبغى أن نلاحظ أن الحياة الرهبانية هادئة ومتوحدة. أى أولئك الذين عزموا أمام الله أن يحملوا نير الوحدة، ينبغى عليهم أن يجلسوا وحدهم وفى صمت، لا ينخرط الرهبان فى أى أنشطة، ولكنهم يمارسون الهدوء والصمت ويصلون لله بلا انقطاع. هذا هو السبب الذى لأجله توصف الحياة الرهبانية على أنها «متوحدة، وهادئة، ومنفصلة».
وحسب آباء الكنيسة، فإن قبول الحياة الرهبانية يعنى قبول الطاعة والتلمذة، وعدم الاضطلاع بدور المُعلم أو القائد. بكلمات أخرى، يصنَّف الرهبان بين قطيع الكنيسة، وليس بين الرعاة. حددت أيضًا قرارات المجامع المحلية والمسكونية الشروط القانونية لمن يريد دخول الحياة الرهبانية. وكون هذه الحياة متوحدة وقاسية ومجاهدة على كل من يرغب فى حياة النسك وبأهدافها السامية أن يخضع للاختبار الذى يتم بإرشاد روحى مناسب. للأسف الشديد، فى حالة ضعف الكنيسة، فإن البعض يدخلون الحياة الرهبانية برياء، ليس بهدف أن يصبحوا خدامًا لله بالتمام، ولكن لأنهم يستطيعون اكتساب مظهر الوقار بالمظهر المهيب للزى الرهبانى، وهكذا يجدون طريقًا للتمتع بوفرة بالكرامات المرتبطة بها.
فهم فى الواقع يفعلون ذلك لكى يحصلوا على مديح الناس عن طريق كرامة الزى الرهبانى. لأجل ذلك حددت المجامع الكنسية المقدسة أنه ينبغى على رسامة الراهب أن تتم تحت رعاية رئيس الدير الذى يحب الله والقادر على العناية بخلاص نفس المرشح الذى يرغب فى الحياة الرهبانية بصدق: «حيث إن السيامات الطائشة والمشكوك فيها ازدرت بالزى الرهبانى وتسببت فى إهانة اسم المسيح». من هنا يتجلى مدى نبل الحياة الرهبانية. إنها تذكرنا بحياة آدم وحواء قبل السقوط، بل تتوقع الحياة الآخرة للأبرار فى ملكوت الله. ينبغى أن تمارس الحياة الرهبانية بتواضع وطاعة وصلاة وهدوء وصمت. إنها تختلف تمامًا عن الحياة الدنيوية. هذا هو السبب الذى يجعل إبليس يحاول إفساد طريقة الحياة الرهبانية، تمامًا كما جرّب آدم وحواء فى الفردوس.
إذ كان آباء الكنيسة القديسون واعين بكرامة الحياة الرهبانية، بل أيضًا بالتجارب التى يشن بها إبليس الحرب عليها، فإنهم حددوا الإطار الذى ينبغى عليها أن تعمل داخله. هذه هى قيمة القوانين المقدسة. هذه هى الطريقة التى يتم بها الحفاظ على وحدة الكنيسة. فالقوانين المقدسة للكنيسة ليست وصايا بشرية، ولا هى وثائق تشريعية، ولكنها نتاج لنعمة الله التى أنارت الآباء القديسين لكى يصيغوها من أجل وحدة الكنيسة وخلاص المسيحيين وهى تعبّر أيضًا عن خدمة الكنيسة فى العمل الرعوى لكل أعضائها. إنها خلاصة مقدسة للخبرة الكنسية.
ينبغى علينا فى هذا المنظور أن نقبل روح وجوهر القوانين المقدسة للكنيسة. يجب أن يكون الرهبان ذوى حس مرهف من ناحية عقائد الكنيسة وقوانينها وبهذا يطيعون الروح القدس الذى يعمل فى الكنيسة. وعندما يعيش الرهبان داخل هذا الإطار القانونى والكنسى ويقبلون نعمة الله، فإنهم يتطهرون ويستنيرون ويتحدون بالله. إنهم الغدد الصماء الروحية للكنيسة، التى تعطى حياة وصحة للعديد من أعضاء الكنيسة. ثم إن الأساقفة يتلقون هم أيضًا الخفيات والظاهرات، ويساعدون على الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسى ويدعمون خدمتهم الرعوية للمسيحيين.
تحدد القوانين المقدسة، التى تتناول الطريقة التى ينبغى بها ممارسة الحياة الرهبانية، الإطار الذى به يتطهر الرهبان ويستنيرون ويتحدون بالله، بحيث يُفيدون أعضاء الكنيسة الآخرين بطريقتهم الخاصة. أولئك الذين لا يقبلون روح وجوهر القوانين المقدسة ليس لديهم فى الحقيقة فكر الكنيسة. إنهم لا يقبلون علم اللاهوت الرعوى الذى لآباء الكنيسة، ولا هم قادرون على اختبار قوة الله المطهرة والمنيرة التى هى هدف الحياة الروحية والرهبانية. فكيف لمن لم يحيا الحياة الرهبانية الجادة أن يصير، فجأة، «الرئيس الأعلى للرهبنة»؟!